اخر الاخبار

رغم عدم إيماني بالصدف ولكن ما حدث معي حال دخولي أروقة "طريق الشعب" والعمل فيها، وما لحق ذلك من أحداث غيّرت مجرى حياتي كله، تأكدت من أن "الصدفة خير من ألف ميعاد".

ففي الوقت الذي كانت فيه الجريدة تبحث عن مصحح في القسم الفني، كنت أنا من دون عمل، بعد أن تركت عملي كمدرِّسة للغة العربية ترفض الانصياع لما يُملى عليها من أوامر من المشرفة الاختصاص بطريقة البعثيين المعروفة لدى الجميع، وتغليب المصلحة الشخصية لها على المصلحة العامة للطالبات والمدرسة.

قدّمت بعد ترشيحي للعمل من قِبل جارتي، التي كانت إحدى رفيقات الحزب، ولمعرفتها بحاجة الجريدة إلى مصحح متمكن. قُبِلت بعد مقابلة عمل قصيرة واختبار، كان بالنسبة لي بسيطاً جداً، من قِبل (أبو جواد وثامر الصفار). كان ذلك في نهاية العام 2004 .

لم أكن أصدق أنني أعمل في مجال الصحافة، حتى وإن كنت مصححة فقط. إنه عالم لم أكن أحلم به قط. كانت أحلامي وأخوتي لا تتعدى العمل بشرف والعيش بكرامة، خاصة في سنوات التسعينيات العصيبة، التي حطّم فيها النظام السابق كل القيم وحارب فيها أصحاب المبادئ وحاصرهم لتركيعهم بوسائل شتى.

أيامي في "الطريق" كانت الأجمل والأغنى، فقد تعلمت خلال سنواتي التسعة فيها فنون الصحافة وأدواتها وطريقة قراءة الخبر وصياغته، وكيفية إيصال الكلمة الحرة إلى الناس الذين تعمل الجريدة من أجلهم.

تدرّج عملي من مصححة إلى محررة ثم مسؤولة لصفحة المرأة، فمسؤولة للقسم الفني، ثم مسؤولة لعدد من الصفحات، فضلا عن نيلي ثقة إدارة الجريدة بتوزيع رواتب الموظفين والعاملين فيها في حال غياب (أبو آوس وأبو هشام) معاً لظرف ما. كل ذلك عزز ثقتي بنفسي بأني قادرة على العطاء وإنجاز المهام أكثر مما كنت أتصور.

ولا يمكنني هنا نكران فضل أول من دعمني وشجّعني على الكتابة والعمل كمحررة واستلام المهام، عبداللطيف السعدي (أبو أثير) الذي أصبح فيما بعد زوجي، فوضعني بذلك على السلّمة الأولى في سلّم الصحافة. وهنا أعود للصدفة فلولاها لما عملت في الجريدة ولما التقيت بشريك حياتي ورفيق دربي حتى اللحظة.

علمتني "الطريق" معنى العلاقات الإنسانية المجردة من المصالح وأنا التقي يومياً بعامر، الحارس الواقف على باب الجريدة وموظف الاستعلامات ثم موظفي أقسامها إلى رئيس التحرير وحتى المسؤول الحزبي المسؤول عن المتابعة. كانت تجمعنا مصلحة واحدة هي إصدار الجريدة بأبهى شكل وأصدق كلمة، بتعامل مهني واحترام متبادل. فضلاً عن احترامهم لمبادئي وعقيدتي التي أتصور أنها تلتقي مع عقيدة الشيوعيين في كثير من النقاط. كنت أنظر إلى اشتراكية الإمام علي (عليه السلام) التي كان يحكم بها بين الناس، إلى أنها الاشتراكية نفسها التي يسعى الشيوعيون إلى تحقيقها والعمل بها لإنقاذ الناس من الاستغلال والرأسمالية.

وربما لأنني أنحدر من عائلة عمالية وأعرف معنى أن يكون الإنسان كادحاً، فقد أصبحت صديقة للحزب الشيوعي والشيوعيين، الحزب الذي لا أعرف عنه غير معلومات مضببه بحكم التعتيم الإعلامي لسنوات طويلة خيّم فيها النظام السابق على كل مفاصل الحياة. فضلا عن الخوف من الخوض في أي موضوع يفضح سياسته وديكتاتوريتة. أصبحت صديقة لهم تعرفت عليهم عن قرب وتأكدت من أن الإنسان عندهم هو رأس المال الذي يجب أن يقـدّس، كبيرهم يساعد صغيرهم ويأخذ بيده.

أفتخر أني عملت في جريدة عريقة ذات جذور وطنية وتأريخ حافل بالنضال والتضحية في سبيل إيصال الكلمة الحرة إلى أبعد نقطة في العراق، إلى أبنائه من عماله وفلاحيه قبل مثقفيه ومهندسيه ومحاميه. فمَنْ يفعل ذلك غير الشيوعيين؟!.

جعلت الجريدة عبر مراحل تكوينها المختلفة، من "كفاح الشعب" إلى طريقها اليوم من فكرها شعاعاً ينير درب الحرية ويزرع الثقة والثبات في قلوب رجال ضحوا بحياتهم من أجل ذلك الفكر. وما (فهد، شمران الياسري، كامل شياع، وغيرهم) إلا نماذج لأولئك الرجال الشجعان.

لا أخفيكم سراً أنني عندما فكرت بالمساهمة بالكتابة بمناسبة عيد الصحافة الشيوعية، قلت أنها سوف لن تصل إلى مستوى المساهمات الأخرى من رفاق الحزب وأصدقائه، لما تتضمنه مساهماتهم من معلومات وتفاصيل دقيقة من تأريخ الصحافة الشيوعية، تفيد القارئ وتأخذه إلى عوالم يتمنى لو أنه كان جزءاً منها. مع ذلك كتبت، وأرجو أن تكون مساهمتي سطراً في هذا التأريخ وتقديراً لكل من عملت معهم في "طريق الشعب". فقد كان جميلا أن ألتقي أستاذا كبيراً كالأستاذ عبدالرزاق الصافي الذي كان يصحح لنا ما يفوتنا في بعض الأحيان من أخطاء وصياغات، ويعلمنا فنون الكتابة وكيف نتعامل مع الجملة والنقطة والفارزة.

ولا يقل عنه بذلك الأستاذ غانم حمدون وهو يكلمنا وكأننا أبناؤه. والأمر نفسه مع الأستاذ نعمة عبد اللطيف، الذي كان يحرص على الحضور بنفسه رغم كبر سنه وتعبه ليسلمنا مواد صفحة التربية والتعليم. فيما كنت أستعين بعريان السيد خلف لينقذني عندما أتعثر بقراءة أبيات شعره الشعبي أو أبيات قصائد لشعراء شعبيين غيره، التي لم أكن أتقن قراءتها، لأستطيع بعدها من تنضيدها دون أخطاء. بينما كان إبراهيم الحريري حاضراً دائماً يرافق أي منّا ينضد مادة له في طريقها إلى النشر؛ يحذف ويقدّم ويؤخّر ويصحّح على مادته نفسها، لتخرج "حارة ومكَسبة من التنور".

أما الأستاذ مفيد الجزائري فكان الفلتر الذي يجب أن تمرَّ خلاله المواد ليدققها ويضع لمساته الأخيرة عليها، حتى وإن كان في اللحظات الأخيرة لنعود إلى تصحيحها قبل تسليمها إلى المنفذين.

كنا نعمل بحبٍّ وصبر كبيرين، وهو الحب نفسه الذي كان يملأ  الكثيرين ممن ساهموا بإغناء صفحات الجريدة ومدَّها بالموضوعات (تحقيقات، كتابات، اقتصادية، حياة الشعب، ثقافية، رياضة ووو). بعضهم يساهم مقابل مكافأة بسيطة، وآخرون نظير راتب لا يسد متطلبات عوائلهم، فيما كثيرون يساهمون دون مقابل، المهم لدى الكل دوام إصدار الجريدة، التي ينتظرها الناس ممن يقدرون كل الجهود المبذولة لإصدارها. ولتبقى أبوابها مفتوحة لكل طالب علم أو باحث عن معلومة، أو زائر يرغب بالاطلاع على أقسامها وتفاصيل عملها.

تحية إلى كل من عملت معهم في "الطريق"، رفاق وزملاء وأصدقاء (أبو خلدون، ميس، أبو صفاء، ماجدة، سليمة، إشراق، عماد، علاء الماجد، فهد الصكَر، حنون مجيد، سعدون هليل، سهاد، ستار الناصر، عبدالرحمن فليفل، منعم جابر) وفي قسم التنفيذ (أبو عامر، حسين، مصطفى، مشرق وقبلهم إقدام وعمار وباقر)، وأعتذر عمَن فاتني ذكره، كلكم في القلب والعقل الذي لم ولن يستطيع أن يختزل أو يحذف هذا الفترة الجميلة من حياته.

كل الإمتنان لجريدتنا الغراء "طريق الشعب" دمتِ ضميراً حياً ومدرسة تعلم الأجيال الشجاعة في قول كلمة الحق مهما علا النفاق والباطل لان النهاية دائما إلى جانب الخير.