اخر الاخبار

علينا التأكيد منذ البداية على أن شكل الدولة ومضمونها يتطابقان في الغالب مع شكل البيئة الاجتماعية ومضمونها.

لا شك أن هناك شواذا يعتري تاريخ نماذج الدولة التي مرت على البشرية لا سيما الدولة الحديثة والمعاصرة. لكن على الرغم من أن المجتمع وعلاقاته وإرهاصات تقلباته ومضامين تنقلاته تنتج أشكالا سياسية متناسبة طرديا معها، فإن من الممكن أيضا توقع أن شكل الدولة المفروض على المجتمع يملي تغيير معينة على المجتمع تجعله يتطابق مع شكل الدولة هذا. لكن هذه حالة نادرة جدا. والفكرة التي أدافع عنها هنا هي أن مهما كانت ضغوطات الظرف الموضوعي لتطويع الحالة الذاتية فإن الأخيرة هي صاحبة القرار النهائي ومهما استجابت للموضوعي فإنها تستدرجه لتجعل منه منسجما ، مرغما، مع ترتيباتها هي.

من هنا يأخذ نضال القوى الوطنية في بلدانها مسارين اثنين:-

1- العمل على تغيير شكل الدولة بانقلاب للوصول إلى السلطة عن طرق عديدة لتغيير شكل الدولة منها الثورات السياسية والانقلابات أو الانتخابات أو بتحالفات مع السلطة.

2- العمل على تغييرات ( اجتماعية ) في الثقافة العامة السائدة في المجتمع باتجاه حضاري من خلال تبني مطالب جماهيرية وممارسة الضغوطات نحو التأثير على شكل الدولة وقوانينها الأساسية والعمل من داخل المجتمع: النضال الجماهيري والنضال المطلبي والنضال التوعوي والتثقيفي والتحشيد والتحالفات السياسية والثورة الثقافية وغير ذلك مما تسمح به ظروف البلد المعني.  عند الوصول إلى السلطة تتمكن القوى الوطنية الثائرة من تحقيق برامجها من خلال إصدار القوانين وتغيير الدستور وتحقيق إنجازات اقتصادية  تنسجم مع تطلعاتها التي كما يفترض أنها تطلعات الأغلبية من أبناء الشعب,

3- ويبدا ذلك بالانعكاس التدريجي على العلاقات الاجتماعية أي على تركيبة المجتمع وتبدا خطوات تحرير المجتمع والإنسان في التحقق. لكن هنا ينبغي ذكر وبجرأة أن العلاقات الاجتماعية الجديدة ( تركيبة المجتمع ) سوف تتطور وربما بوتيرة أسرع لا يمكن معها لشكل الدولة الذي فرضته الثورة الاجتماعية وثوارها أن يبقى مكانه فيضطر هذا الشكل للاستجابة للتغييرات الجديدة فيبدأ هو الآخر بالتغير كي ينسجم  مع الواقع الجديد ومتغيراته. بمعنى أن الظرف الموضوعي الذي كان إلى أمد قريب جديدا سيدخل مرحلة يصبح فيها من الماضي فيضطر للاستجابة لضغوطات الظرف الذاتي ليستجيب لها ويجري تغييرات ( إجبارية ) في تركيبته وهكذا يكون التطور أو لنقل أن هذا هو قانون التطور الذي نؤمن به بدليل الشق التالي من المعادلة:

ثانيا: لا يمكن للقوى الوطنية انتظار التغييرات الفوقية في شكل السلطة كي تنعكس على المجتمع وعلاقاته وتتسبب في التطور المرجو. فمن الأنظمة ما تتشبث بالسلطة بشتى السبل بما في ذلك القوة والعنف والقمع والخداع والتضليل. مثل اللجوء إلى إجراءات إصلاحية ترقيعية وحلول مؤقتة الغاية منها الحيلولة دون تفجر اعتراضات الجماهير وتحول مطالب الشعب إلى أعمال قد تهدد سلامة السلطة واستقرارها وبالتالي على بقائها. لكن نضال القوى الوطنية في هذه الحالة سيتركز على: نشر الوعي الوطني والطبقي – حقوق الإنسان – العدالة الاجتماعية – الوحدة الوطنية – الانتخابات – إشغال مواقع في مراكز القرار ( مجالس محلية وبلدية وفي البرلمان   - نشاطات شعبية تطوعية - محو الأمية – المظاهرات – المسيرات – الإعلام المتنوع - وشتى سبل التعبير عن المطالب).

   هنا ستؤدي القوى الوطنية ونضالاتها التوعوية والمطلبية والجماهيرية دورا كبيرا في تعبئة طاقات المجتمع والضغط على السلطات والأنظمة للاستجابة للمطالب ووضع الحلول الجذرية بل وإجراء تغييرات بنيوية في طبيعة النظام بما ينسجم مع الحالة الجديدة التي صار عليها المجتمع.

قاعدة:

1- العامل الذاتي أقوى من العامل الموضوعي. الموضوعي له دور قوي وكبير في توجيه مسارات الحدث والظواهر لكن الأقوى منه هو العامل الذاتي. لذلك على قوى الثورة الوطنية الديمقراطية العمل على خلق الظروف الذاتية التي سينبثق منها شكل الدولة الخارجي ( الموضوعي) المطلوب.

2- انبثاق الشكل الخارجي ( الموضوعي ) من الذاتي لا يعني أبدا نهاية المطاف بل أن التطور سيتواصل ويستمر العامل الذاتي ( العلاقات الاجتماعية ) نحو التململ بحثا عن أوضاع أفضل كلما تطورت الأوضاع الحضارية والمستويات المعاشية. التململ قد يكون مناسبا للظرف الموضوعي ما دام لا يتقاطع بشدة مع مصلحة المجتمع لكنه سيأخذ شكلا آخر: ستتطور الحالة الاجتماعية أكثر وأسرع كلما ازدادت تناقضاتها مع الشكل الموضوعي حتى تصل حد التناقض الحاد آنذاك لابد من حدوث حالة   ثم التفجر الذي ستكون له مسارات:

1- إما تحاول السلطات ( باعتبارها جزءا فأعلا من الموضوعي) احتواءه بإجراءات ترقيعية تسويفية لإفراغه من محتواه الوطني والثوري والإنساني وبالتالي تأجيل مسألة الحسم.

2- أو أن تحاول القوى الوطنية من تفعيله (وتطويره باتجاه المزيد من الإجراءات الضاغطة على الدولة كي تتخذ نهجا تتحقق فيه المطالب الاجتماعية وحاجات الشعب الأساسية وهي (أي  الدولة ) بذلك - وربما دون أن تدري-  ستقوم بعمليات تغيير في شكلها ( شكل السلطة ) وتتبنى بعض تغييرات في شكل الدولة الذي يجب أن ينسجم مع العلاقات الاجتماعية الجديدة التي لا تستقر حتى تتطابق مع شكلها الخارجي ( الدولة).

وهكذا يتحقق التاريخ.

عرض مقالات: