اخر الاخبار

لم يتقبل الأهل فكرة انضمامي لأسرة “طريق الشعب” في العام 1975، وأنا الطالبة في المرحلة الثالثة من الدراسة الجامعية، رفضوا، لما يتطلبه تواجدي حتى ساعة متأخرة من الليل في مطبعة الروّاد الكائنة وسط مجموعة بيوت الأمن العامة بمنطقة بارك السعدون، القصر الأبيض آنذاك، قبل انتقالها لمبنى حديث في قناة الجيش.

ناقشوني وبحدة، فالوضع السياسي قلق جدا، واصطياد الشيوعيين ماض بوتيرة متسارعة.

أقنعتهم بإصراري على ضرورة تحقيق أملي بنيل فرصة العمل ضمن إطار صحيفة “طريق الشعب” وقد كانت حلما صعب المنال، وبتأكيدي على صيانة وضعي الاجتماعي والحفاظ على سمعتي وسلوكي الشخصي المنضبط حتى رضخوا.

بلوغ مطبعة الرواد يتطلب السير بين بيوت الأمن العامة، و كنا نغنّي ساخرين “إحنا والأمن جيران”.

استقبلني بحفاوة في استعلامات المطبعة الصديق “ ليث الحمداني” ( المقيم حاليا في كندا)، شد على يدي مرحبا واصطحبني إلى الطابق الأول من المطبعة حيث مكتب إدارة القسم الفني.

هناك أنكب شاب على رسم خطوط عناوين الصحيفة بدأب ودقة شديدين، قدمني الحمداني لذلك الشاب (زوجي الشهيد في ما بعد)، سامي العتابي، معرفا باسمي وبصيغة عملي الجديد في قسم مونتاج الصحيفة التابع للقسم الفني.

التحقت بقسم المونتاج الذي ضم شبابا وشابات رائعين، أمثال انتشال التميمي (مدير مهرجان الجونة المصري السينمائي حاليا) وأخته زاهرة، ثائرة فخري (استشهدت بقصف إسرائيلي على بيروت في الثمانينات)، عبد الله الرجب، جابر سفر، رحيم فالح، عفّان جاسم، محمود حمد  ، عباس  ، عبد الرحمن  ، بيمان سعيد، وغيرهم.

نشأت بيننا علاقات محبة وتضامن وانسجام. يعج القسم بالمرح والضحك عاليا  بإطلاق النكات من قبل المشرفين الفنيين بحضور الخطاطين سامي وأخويه جمال وصفاء العتابي، وعبد علي طعمة، والمصممين، أمثال حسام الصفار، والمتابعين الفنيين قيس قاسم ومصطفى أحمد.

 مثَّل لنا كل يوم في القسم عهدا جديدا من الخبرة والتعلم وبلورة الشخصية، عملنا بصحيفة تُصفّ حروفها بطريقة “اللاينو تايب” وتطبع على “شيتات” من الورق الأبيض اللامع، يتسلمه قسمنا، نشرع أولا برسم صفحة الجريدة وفق “ماكيت نموذج” تصميم القسم الفني، مستخدمين أنواعا خاصة من أقلام “الروترنغ” والفراجيل والمساطر بخطوط دقيقة جدا.

نقص بعدها مادة الصفحة على شكل شرائح نلصقها على الفراغات المرسومة، ونثبت خطوط العناوين، نرسم مربعات أو دوائر ونحفرها باستخدا  شفرة “الكتر” لتصبح أماكن لتثبيت الصور الفلمية بعد تصوير الصفحة الورقية نفسها بقسم التصوير.

 بعد تثبيت الصور نصلّح الفراغات الفيلمية برتوش من مادة ملونة خاصة، نفتح بعدها فراغات معينة بحسب التصميم لتصبح مؤهلة لوضع اللون عليها في المطبعة.

لم يكن العمل سهلا، بل تطلب جهدا وفيرا من التعب والتركيز، فضلا عن تأخر ساعات العمل حتى منتصف الليل، موعد ورود آخر الأخبار وتنضيدها ورسم صفحاتها من قبل قسمنا.

برغم التعب والإرهاق كانت سعادتي لا حدود لها، بالعمل ومتابعة دراستي في الوقت نفسه.

استيقظ في السادسة والنصف صباحا، احضّر ما أمكن من دروسي، استعد للذهاب للجامعة بركوب وسيلتي نقل على مرحلتين حتى أصل باب المعظم، أسير بعدها مشيا على الأقدام لمدة ربع ساعة حتى أبلغ كلية الآداب.

عند انتهاء حصصي أعاود السير مشيا على الأقدام حتى محطة الميدان، أركب من هناك حافلة رقم 4 لمنطقة القصر الأبيض، حيث مبنى المطبعة ..

 أنكب على عملي حتى منتصف الليل، توصلني سيارة الجريدة منهكة تماما للبيت.

كنت محط إعجاب الجميع، بنظرهم كنت الرفيقة “البرجوازية” الأنيقة طالبة الجامعة. أتلّقى نظرات إعجابهم بمرح واضحك لتعليقاتهم الطريفة.

عائلة العتابي

استرعت انتباهي عائلة العتابي التي توزعت على أركان الصحيفة، الوالد حسن العتابي مسؤول في صفحة “التعليم والمعلم”، مناضل عتيد بتاريخ مشرف، انتمى إلى الحزب الشيوعي في وقت مبكر من حياته عندما كان معلما في الناصرية، وذاق الأمرين من سجن وتنكيل في أغلب عهود الدولة العراقية المعاصرة بدءا من الملكي، وقاسم، وانقلاب 8 شباط عام 1963.

الأخ الكبير جمال العتابي، فنان راق وأفضل خطاط في الصحيفة يرسم “هيد ـ ترويسة “ الجريدة وعناوين صفحتها الأولى، سامي العتابي مصمم الصحيفة الأول ومسؤول القسم الفني، خطاط أيضا، صفاء العتابي الأصغر بينهم، خطاط، ومتابع فني للصحيفة.

كما تعرفت في أحد مناسبات الجريدة على معظم أفراد العائلة، وعقدت صداقة مع أختيهم الشابتين هناء وليلى العتابي.

سامي وصفاء كانا الأقرب لقسمنا بسبب مهامهما الفنية أولا، ولأنهما الأكثر انسجاما ومرحا مع الجميع، كانت نكاتهما وضحكاتهما تسبقهما إلى القسم، ومع دخولهما تتعالى التعليقات والضحكات.

مرة دخل علينا سامي يرتدي ربطة عنق على غير عادته، والأغرب لاحظنا قصاصة ورق معلقة عليها، لم ينتظر “سامي” استفسارنا بل قفز ضاحكا معلنا بصوت عال”يا جماعة نجحت وتخرجت من الجامعة وهذه شهادتي” .

شاركناه الفرحة ووزعنا قناني المشروبات الباردة احتفالا بالمناسبة.

أخذ سامي بعد ذلك يطيل الوقوف عند طاولة عملي، يقترب مني كثيرا أثناء تعديل خط ما، أو رسم منحنى “كيرف” على صفحتي، يعبر عن إعجابه بدرجة مبالغة حين أحسن عملي وأتقنه .. وبمرور الوقت تيقنت من اهتمامه بي  أكثر من غيري.

مرت الأيام وأنا على روتين دوام الجامعة والعمل في الجريدة والعودة متأخرة للبيت، زاد إلحاح سامي وتلميحاته لي، مقابل رفضي له.

أما أصدقاؤه فكانوا خير معين له، يقف جنبي قيس قاسم ويحدثني بمرح وصوت جهوري ،”يمعودة خلصينا سامي يوميا يسَّهرنا حتى الصباح ببيت العتابي شاكيا هيامه وصدّك له، والله ما يستاهل، سامي خوش ولد”.

أضحك وأعتبر الأمر مزحة.

مكتب التحرير

فور تخرجي التحقت للتدريب على أصول التحرير والترجمة بمكتب الجريدة بشارع السعدون.

هناك تفتحت أمامي آفاق مدهشة من العلم والمعرفة، وتعلم أصول المهنة على أيدي صحفيين وسياسيين كبار.

أجلسوني في الطابق العلوي من المبنى، حيث مكاتب رئيس ومدير وسكرتارية التحرير، وضعوا مكتبي بجوار مكتب الصحفي والمترجم المخضرم “حمدان يوسف - صادق البلادي” ، وقد شرع يمدني بمقالات للترجمة ثم الإشراف والتصحيح لما أنجز، وتدربت في الوقت نفسه على كتابة الموضوعات السياسية والاجتماعية بإشرافه أيضا.

كان المكان يعج بكبار الكتاب والسياسيين والفنانين من الرفاق، أمثال عبد الرزاق الصافي، ماجد عبد الرضا، فخري كريم، فائق بطي، يوسف الصايغ ، فالح عبد الجبار، ورضا الظاهر، إلى جانب المحررين و رؤساء الأقسام الأخرى أمثال حسن العتابي، حميد الخاقاني، د سلوى زكو، زهير الجزائري وأخته سعاد، عدنان حسين، فاطمة المحسن، عبد المنعم الأعسم، عفيفة لعيبي، عامر بدر حسون، مصطفى عبود ،مؤيد نعمة، رجاء الزنبوري، وغيرهم.

وأقصى سعادتي كانت حين نشر لي أول موضوع مذيل باسمي.

سُحرت بالأجواء الرفاقية الراقية، نبدأ صباحنا بشرب الشاي على مناضد الشرفة الخلفية للمبنى، نناقش أهم مستجدات الوضع السياسي ونطالع باقي الصحف قبل توجهنا لأعمالنا.

التواضع والاحترام سمتا الجميع، يحظى به سائقو المركبات، وعمال المطبخ، وموزع البريد، والصحفي والكاتب على السواء.

نتلقى معلومات غنية ممتعة بعد رحلة الرفيق فالح عبد الجبار إلى البرتغال ، ناقلا لنا يوميا تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية هناك ، قبل أن يسجلها بكتاب مطبوع يصدر بعد ذاك بعنوان” يوميات الصراع الطبقي في البرتغال”.

تتوالى الندوات والجلسات الثقافية في قاعة المبنى الوسطى، باستضافة كبار المفكرين والسياسيين.

لم يقتصر الأمر على غذائنا الثقافي والروحي، إنما سعت الجريدة للترويح الاجتماعي بتنظيم رحلات نهرية لجزيرة أم الخنازير، وحفلات ذكرى ميلاد الحزب وتأسيس الجريدة داعين لها شخصيات سياسية وصحفية من باقي الصحف والمجلات المحلية.

في عيد المرأة 8 آذار نُهدى جميعا ورودا حمراء وتكرمعاملات المطبخ والمتميزات منا في أقسام التحرير.

كان جوا صحفيا مثاليا صاغ  اللبنة الأساسية لعملي المهني ومستقبلي الصحفي في ما بعد.

عرض مقالات: