اخر الاخبار

يعتبر العمل اليومي داخل السجن  طريقة من طرق الفيلسوف المسرحي العالمي الروسي قسطنطين ستانسلافسكي ( 1863 – 1938)، تعلمناها منه ومن فنونه التمثيلية، للتخلص التام من تركيب الشخصية المتناقضة سيكولوجياً، من حيث الرفعة والضياء، ومن حيث مقدار الجهد الإنساني المبذول في يوم واحد أو في ساعة واحدة من قبل إنسان عراقيٍ مقيد بالحديد والنار في ستينيات القرن العشرين. وهي في اغلب الاحيان تعبّر عن شخصية (الإنسان الثرثار) من الناس  المتسابقين في الكلام مع أنفسهم، ضد الناس المتسابقين مع غيرهم بكل أرض الدنيا، من أجل ان يعبّر هؤلاء الناس، المتوقدين بالنضال، بوصفهِ شعوراً ذاتياً، لا يمكن انتزاعه من قلب المناضل العراقي حيث ملاذه الأخير موتا بين اسوار (النقرة) أو حاملاً (صدرية الكرامة) حين اطلاق سراحه. 

من المعروف أن شخصية السجين السياسي، الشيوعي خصوصاً، هي الشخصية المتعددة الأصوات، اي التي تتكلم مع نفسها، يعاتبها صوته، ليس بمستوى الشاعر العربي القديم أبي العتاهية، حيث صوّر(مجلس الحكومة، مجلس الوزراء، بأحلى من غادة هيفاء ،مدللة. افتتن الناس بها، جميعاً..  انها تجر اذيالها تيهاً وفخراً) لكي تثير غرائز البشرية.

هكذا ينظر الصحفيون المنتمون الى  مهنتهم.انها تمنحهم القوة الخارقة في عملية التغيير، تغيير الناس والمجتمع، وتغيير كل شيء في الحياة وفي حياتهم، حتى انها تغيّرهم كلياً.  لا شك ان المعايير الاولى في التغيير  تقوم على اخلاقيتي (الخير) و (الشر). يتعيّن على (سجين الخير) ان يستخدم (مواصفات) ملائمة للشجاعة الإنسانية و المروءة القصوى، الشجاعة والمروءة غير المتناقضة الواحدة مع الأخرى او مع رغائب الشخصيات المتكاملة، المتخلصة، من تناقضاتها .. المتجهة نحو الأمامِ بكل ما (يؤخذ) من حدود العمل والتغلغل فيه او في حدود ما (يعطيه) الانسان.

هنا، نواجه حالتين عمليتين: الأولى هي (الأخذ)، والثانية هي (العطاء).

من دون شك ان تأثير الإنسان السجين على طبيعة الوجود السجنيِ، بالغ التعقيد، هو تأثير واسع وثقيل، بمعنى انه مثل الشمعة يحترق، لكن من دون ان يضيء للناس. انه لا يضيء على بعض الفعاليات الإنسانية، السجنية، بما في ذلك مهمة (العمل الاعلامي) الداخلي. أقصد بالداخلي، هنا، هو العمل السجني البحت، أي ما يجلو من السجناء وإليهم. كل أولوية سجنية يمكن ان تقوم بمقدار الاستعداد الكلّيِ، المكرّس لقطاع الاعلام أولاً و أخيراً.

المعنى الاعلامي المقصود، هنا، حسب واقع السجن والسجناءِ، أنه المقصود عن بعض احداث وقعت في (نقرة السلمان). احاول أن أبني (دراما ليست آنية)  فوق  مبنى (دراما الانفعالات اليومية)، وهي دراما آنية في بوتقة المشاكل اليومية ذات (الشاكلة الواحدة) الجارية بـ(النقرة). مع الأخذ بعين الاعتبار قدرات الصحفيين العديدين الموجودين بـ(النقرة) وخواص الموقف الصحفي وإمكانيات تطوّرهِ، في العمل  السجني، المغاير، من حيث (الشكل) و(المحتوى) عن (الورك شوب) في العملِ الصحفيِ، قبل فترة السجن، أيام التحرر من باطل كل قيد بوليسيٍ.

اول المفاهيم الجدية واجهناها، نحن الصحفيين، الجادين، حال شعورنا ان الشمس في (النقرة) ليست منيرة. بمعنى ان عملنا ليلي فقط . أي أننا لا نمسك قلم الكتابة والتدوين إلاّ في الليل، إلاّ في الظلام. نواجه الخبر، ليلاً، حتى لو وقع الحدث في منتصف الظهيرة.

لا ندري .. هل ان العمل الصحفي في ( نقرة السلمان) يساوي مقداره وحجمه 50% من مقدار وحجم  العمل الصحفي الاعتيادي، خارج السجن، ام هو ضعفه. هل هو (نصف تكتيك) العمل الصحفي في جريدة اخبارية  معينة او في مجلة ثقافية عمومية في العاصمة بغداد او في مدينة العمال والمثقفين بالبصرة .. هذا ما كنا نحس به أو يحسّ بنا. كنا نعمل ليلاً ست او سبع ساعات متواصلة، لا يقطعها غير تناول استكان شاي أو تناول فنجان قهوة. كان التعب والنعاس يضرب منا جهد الدماغ والعيون. لكن التحدي السجني يجعل كل واحد منا متفوقاً على دوره بكل ممارساته في اي شكلٍ من أشكال الدراما السجنية.

كان الشعور بالسعادة يتفوق على كل نوعٍ من أنواع (الفرح) و (النصر) حتى ولو كان ذلك النصر بعد كفاح مرير يمر به السجين في مرحلة (الاضراب العام عن الطعام) الذي قد يتجاوز في بعض الحالات، التي مر بها سجناء سياسيون سابقون من أمثال سلطان ملا علي وعبد الحسين خليفة وسامي احمد وعبد الوهاب طاهر وغيرهم كثيرون من الذين تجاوز اضرابهم عن الطعام مدة شهر واحد او يزيد، في سجن بعقوبة الهمجي أو غيره.

في فترة لاحقة لجريمة الانقلاب البعثي في 8 شباط 1963 واصل اعضاء هيئة تحرير الجريدة السجنية، بتلك الفترة و ما بعدها، عملهم اليومي بكل ليلة، بصورة سرية للغاية.

ليس لعدد رفاق (هيئة التحرير) تحديد معين. احياناً يكون محرراً قديراً واحداً، احياناً أثنين. ربما يصل  العدد إلى ستة رفاق مناضلين، صحفيين سابقين، ممن يملكون في حياتهم، قبل السجن، جزءا منه ضمن العمل الصحفي النشيط. احياناً يصبح العدد خمسة  احيانا يهبط الى اربعة او ثلاثة. الاسباب في هذا النقصان تعود، غالباً، الى عمليات اطلاق سراح المعتقلين والسجناء بعد عام 63، جزءاً بعد جزء ، في محاولة اثبات ان تلك المرحلة تختلفعن مرحلة الحكم البعثي، خاصة وان الادعاء بمحاربة البعثيين كان ملموساً في بيانات وتصريحات عبد السلام عارف و عبد الرحمن عارف وآخرين بمناسبات مختلفة . كنا انا وسامي احمد العامري، محررين ثابتين، غير متغيرين. كما ان بعضهم و هوالقليل ، واحد أو أثنان من اعضاء هيئة التحرير قد جرى انسحابه، بناءً على طلبه من مثل الرفيق المترجم صالح الشالجي بسبب تفرغه التام لرعاية المعلم المصلاوي الشهير (يحي قاف) العاجز عن الحركة بسبب كبر سنّه واشتداد مرضه.  

كان الفيلسوف الاسباني ريمون لول (1235 - 1315) قد درس اللغة العربية والمنطق دراسة مستفيضة. صرف جهداً مدته 10 سنين، حتى كان من اوائل المستشرقين الأوربيين، المطالبين بتدريس اللغة العربية في الجامعات الاوربية، مما دفع هيئة تحرير النشرة السجنية، الى التعريف بمؤلفات ابن رشد والرشديين و ابن سينا والفارابي وغيرهم من عباقرة العرب، مقارنةً بالفلاسفةِ الأغارقة، خاصةً افلاطون وأرسطو وامثالهما، فضلاً عن قيام النشر السجنيِ في (النقرة) ،كلّ يوم، بتناولِ شخصيةٍ عراقية من أمثال الدكتور علي الوردي ويوسف العاني والروائي العراقي غائب طعمة فرمان والممثلة الطليعية زينب ورفيقتها ناهدة الرماح وغيرهم.

كانت النشرة موضع اهتمام (اللجنة الثقافية)، السجنية، الجامعة لجميع المثقفين، المعتقلين أو المحبوسين في (النقرة) حتى سميت السنوات الستينية بهذا السجن (عصر النهضة) لأن (النقرة) نشرت جميع علامات عصر النهوض من كبوة الوطن العراقي والحزب الشيوعي. ركّزت النشرة السجنية الصادرة عنهم اخبارها وتقاريرها ودراساتها اللغوية عن الفلاسفة المهتمين بالشؤون العربية، خاصة وأن العديد من الجامعات الاوربية ظلّت تبحث في (المخطوطات) و(المطبوعات)، التراثية العربية المشار إليها في نشرة (نقرة السلمان) التي تبنّت القيام، كل يوم، بنشرِ نزعة تنوير السجناء وتمجيدِ العقلِ البروليتاري خصوصاً، والانسانية بصورة عامة، رغم وجود وتنامي عاصفة من الارهابِ الفكري الرسمي على تمجيد القتل اليومي بحق آلاف المناضلين.

لقد شعر الصحفيون السجناء بتلك الفترة بـ(قوتهم) الفكرية وبضرورةِ النضال السجنيِ ضد جميع القيود النفسية، التي فرضها الحرس القومي الفاشي وإرادة حزب البعث الفعّالة في لحظات الجرائم المرتكبة بـ(قصر النهاية) حيث كان كل واحد من الشيوعيين المعتقلين حسب نشرة النقرة قريباً من التصفية الجسدية أو من الموتِ الممسرح، كأن يكون  تحت التعذيب بموجب البيان الفاشي رقم 13 او بواسطة المؤامرات والحركات الليلية البعثية المروعة في بعض البيوت البغدادية.

انني بهذه المناسبة الثورية الكبرى اتذكر دور الرفاق الذين تشرفت أثناء العمل الكبير معهم، في مقدمتهم وأولهم سامي احمد وعزيز سباهي الذي عمل بالنشرة محررا لعدة شهور كما عمل فيها الراحل أخيراً الرفيق النجفي (صاحب الحكيم)، ومع أدوار الرفاق الآخرين، من الذين ساندوا الروح الساخرة، المتبناة، بنشرة (النقرة) حين تناوب ازدراء المحررين كل من الرفيق همام عبد الغني المراني ومحمد الملا عبد الكريم وغيرهم ضد النفاق والكذب السياسي المرسومين في خطابات ابرز بابوات الوحدة العربية الفاشستية. كما لا يسعني، هنا غير توجيه التحية الشهمة المستريحة لكل الذين كانوا وراء توزيع النشرة وكتابة نسخها اليومية وتوزيعها في الوادي الرطب من سجن النقرة الذي كان يصدر منه الصوت العالي:

زولوا ايها الفاشست،

قمنا بالتنوير.

كانت نشرة النقرة يديرها ويتناوب على تحريرها، تلامذة الفكر المدني العراقي المتجاوب مع السويسري – الفرنسي – الانكليزي،  من امثال الاساتذة المعلمين، جان جاك روسو و فولتير وبينهم الكاتب العالمي الخالد وليم شكسبير، ذي الموهبةِ العظيمة، الخصبة الخيال  المشبوبة الحساسية.

ظلّت (النشرةُ) من أولِ يوم صدورها، حتى اليوم، رمزاً من رموز الغنى والمجد الديمقراطي والسعادة الشعبية  لبناء الدولة المدنية والمجتمع العراقي الحضاري القادم.

بصرة لاهاي في 4 اكتوبر 2021

عرض مقالات: