اخر الاخبار

مع ان الدستور العراقي قد ضمن منذ وقت طويل «حق ابداء الرأي والنشر» الا ان الحصول على رخصة اصدار صحيفة حرة لا تسير في ركاب السلطات، لم يكن ليتحقق دون صراعات ومكابدات مفعمة بالتضحيات والمجابهات.. وهو لم يكن ينفصل عن الصراع العريض لنيل الاستقلال الوطني او تثبيت الحقوق القومية للشعب الكردي او ضمان التطور الاقتصادي المستقل وتحسين مستوى معيشة الكادحين، وسوى ذلك من المهمات الوطنية الكبرى التي كانت مدار صراع متواصل.

وفي ظل حكومة نصبها الاوصياء الإنكليز منذ العشرينات او حكومات وطنية وقومية لا ديمقراطية فيما بعد، تضطر الأحزاب الطليعية من وقت لآخر الى العمل التنظيمي السري، ساحبة معها الى السر صحافتها، فيما تحاول الإفادة من بعض المنابر الإعلامية والسياسية لإيصال افكارها واستثمار إمكانيات اصدار صحف خاصة بها قدر توفر تلك الفرص.

وهذا ما حدث للحزب الشيوعي العراقي، فالفرص التي توفرت لاصدار صحف تقدمية ديمقراطية، قانونية، وبخاصة تلك التي تعبر عن رأي الشيوعيين في العراق ارتبطت على مدى خمسين سنة بظروف تميزت بالانفراج السياسي وبنجاحات نسبية للحركة الوطنية.. بمعنى آخر انها لم تكن منًة من الحكومات القائمة او تعبيراً عن قناعاتها بهذا الحق، او تسليماً كلياً به.. وبكلمة، كان الامر خلافاً لارادة الشرائح الأكثر يمينية في صفوف الطبقة الحاكمة.

فسنوات صدور صحافة علنية مركزية للحزب الشيوعي العراقي أعوام 1946- 1948 (العصبة/ الأساس) وسنوات ثورة 14 تموز 1958 (اتحاد الشعب/ آزادي/ 14 تموز ..الخ) واعوام السبعينات (طريق الشعب/ الفكر الجديد/ الثقافة الجديدة/ ريكاي كردستان) تميزت بتصاعد نوعي في النضال الشعبي ونهوض في كفاح الملايين المهمشة والكادحة، استطاع الحزب معها انتزاع حق النشر العلني، حين لم يكن للحكام خيار في القبول على مضض بصحافة الحزب العلنية في العهود الثلاث على خلاف التركيبة السياسية والاجتماعية لحكوماتها.. وعبّر ذلك «التشابه» عن نفسه بظاهرتين تاريخيتين ملموستين:

الأولى: محاربة تلك الصحف العلنية، المجازة قانونياً وتحريم قراءتها والحيلولة دون انتشارها بطرق مختلفة.. مما سيرد تفصيله في فصول لاحقة.

الثانية: غياب الاطار القانونية الراسخ الذي ينظم هذا الحق ويرسيه على أساس دائم ومستقر، بما يضمن استمرارها علناً ويدفع عنها سياط الاغلاق.

وعلى العكس من ذلك فإن سنوات الهجوم المحافظ على القوى الشعبية وجدت انعكاساً لها، من بين انعكاسات عدة، في اختفاء الصحافة الوطنية والنقابية العلنية، وتزايد مظاهر النشر السري للأحزاب السياسية وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي العراقي الذي يعد اول حزب عراقي يلجأ الى النشر السري.

فحتى أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي وهي الحقبة التي صدرت خلالها جريدة «كفاح الشعب» السرية لم يعهد العراقي هذا النوع من الصحافة. وقد دشن الحزب الشيوعي العراقي في مبادرته هذه عهد النشر السري المعارض، حتى صار ذلك النشر في فترات لاحقة الوسيلة الإعلامية الوحيدة المتاحة لنشر اهداف الحركة الوطنية(1).

ان «كفاح الشعب» التي صدرت عام 1935 سجلت بداية إعلامية خطيرة، ويومها قال وزير داخلية العراق آنذاك عندما عاد الى العاصمة بعد اشرافه على عمليات قمع حركة الفلاحين في منطقة سوق الشيوخ: «اذا ما ثبتت افكارها فيستحيل علينا قلعها..»(2).

على انه ليس ولعاً لدى الشيوعيين العراقيين ان يلجأوا الى السرية في عملهم او في نشر صحافتهم، وليس خشية من الشارع، انه اجراء اضطراري مؤقت للرد على هجوم الحكام الذين «يحرمون الطبقة العاملة وجماهير الشغيلة من الممارسة العلنية لحقوقها الديمقراطية: حق التنظيم الحزبي والنقابي والتعبير عن الرأي»(3). وهم لم يكونوا يوماً من عشاق العمل السري ولم يختاروا بمحض رغبتهم اللجوء الى إقامة التنظيم السري والى مخاطبة جمهورهم وشعبهم من خلال المنشورات السرية(4)، ولم يفرطوا بأية مناسبة للنفاد الى عالم النشر العلني وقد استطاعوا في فترات عديدة، وبأساليب مختلفة، اصدار الصحف الناطقة بأسمهم او المساهمة في تحرير صحف محلية حزبية او ديمقراطية مستقلة، فقد «استفاد الحزب من الصحافة العلنية الحزبية والفردية، وغذاها بالمقالات ودفع رفاقاً غير مكشوفين، ومثقفين ثوريين وديمقراطيين من أنصاره للاشتغال بها»(5).

لقد اغنى الشيوعيون العراقيون صحافة بلادهم بثقافتهم ومعارفهم وافكارهم الجديدة، واكدوا قدراتهم على التعامل مع الواقع الحي المتشابك وملامسة المشكلات الجوهرية لحياة الشعب، وأوجدوا لغة مشتركة مع كادحيه ومثقفيه، وتعرض العديدون منهم في غمرة ذلك الى حملات القمع والسجن والنفي كضريبة عن تمسكهم بقضة الحرية، او بسبب مقالات نشرت بأسمائهم في صحف شرعية، ومع ذلك فان الشيوعيين لم يترددوا في الإعلان عن نزوعهم الى النشر العلني دائماً والتمسك به والدفاع عنه كحق مشروع.

ومنعا لوصول أفكار التحرير الى الشعب كانت السلطات الحاكمة تلجأ دائماً وكلما تسنى لها ذلك الى اغلاق الصحف الحرة المرخص لها، ولم يسلم من قرارات الاغلاق حتى تلك الصحف الليبرالية وشبه الرسمية. وفي الغالب تقوم السلطات بذلك عندما تبيت مخططاً نحو مصادرة الحريات الهجوم على مصالح الشعب والوطن.. وحتى اذا ما بيتت ذلك – احياناً – فانها تنتهي الى ذلك الموقع الذي انقطعت فيه كلياً عن ان تكون حكومات مستقلة الإرادة.

وهكذا اكدت وقائع التاريخ التي لم تعد بعيدة.. فالاجراءات الأولية التي اتخذتها حكومة ارشد العمري أواسط عام 1946 بضرب الصحافة الشيوعية والوطنية كانت تستهدف تبليط السبيل امام دخول قوات بريطانية جديدة الى العراق في نطاق معاهدة 1930 الجائرة، وكانت جريدة «الرأي العام» اول من أشار الى شائعة وصول قوات اجنبية الى العراقي في 19 حزيران 1946، فقامت السلطة باغلاق الجريدة، تبعتها سلسلة من الإجراءات للتضييق على حرية الفكر، فعطلت جرائد (الجهاد/ والرقيب/ والنداء/ التقدم/ والبعث) واحيلت جريدة «السياسة» و «صوت الأهالي» الى المحاكمة فصدرت الاحكام بتعطيلها(6).

وقبيل هذا الوقت أغلقت السلطة صحيفة «العصبة» القريبة من الحزب الشيوعي العراقي، ولم تكن الحكومة قد تمكنت – كما قالت صحيفة الوطن آنذاك – من استفزاز مشاعر الشعب بالسماح للقوات البريطانية بدخول العراق «الا بعد ان اثمرت حملتها الإرهابية ضد الوطنيين والصحافة الوطنية»(7).

وعلى أثر حكومة العمري مضت حكومة صالح جبر بعد حوالي سنتين، حيث كانت تبيت عقد معاهدة جديدة جائرة مع الاستعماريين البريطانيين «بورت سموث» فمهدت لها باغلاق جريدة «الوطن» لسان حال حزب الشعب في 7 آذار وجريدة «السياسة» لسان حال حزب الاتحاد الوطني في 30 أيار وجريدة «صوت الأهالي» لسان الحزب الوطني الديمقراطي في 9 حزيران 1947 (8).

وأملاً في امرار – حلف بغداد – أداة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي من دون معارضة أصدرت حكومة نوري سعيد عام 1954 المرسوم (24) الذي قضى باغلاق 131 جريدة و 62 مجلة بين سياسية وثقافية.. وقبل ذلك كانت وزارة الداخلية قد قضت بإلغاء كافة الجمعيات والنوادي الثقافية والسياسية(9)، وألزمت الصحف القليلة المتبقية بنشر أكاذيب عن الشيوعيين وحزبهم وتشويهات عن الحركة الشيوعية العالمية والاتحاد السوفيتي في محاولة إعلامية مبكرة لتمرير الحلف.

وشهدت أوائل الستينات حملة على الصحافة الوطنية والشيوعية في مقدمتها ارتباطاً مع سياسة التنكر لحقوق الجماهير الديمقراطية وحقوق الشعب الكردي القومية ونهج اضعاف النضال ضد الامبريالية. فقد تعطلت غالبية الصحف الحزبية واليسارية على اثر إيقاف الحزب الوطني الديمقراطي لنشاطه السياسي وإيقاف جريدة «الأهالي» عن الصدور، واحتجاب جريدة «خه بات» لسان حال الحزب الوطني الديمقراطي الكردستاني على اثر اندلاع نيران الاقتتال في ربوع كردستان في 11 أيلول 1961، وتعطيل «اتحاد الشعب» لسان حال الحزب الشيوعي العراقي»(10).

ومعروف ان النهج المعادي للديمقراطية الذي سلكته قيادة ثورة تموز 1958 وحرم الشعب من اقنية التعبير الحر ومن تبصير القيادة بالاخطار المحدقة بالبلاد قد انتهى بها الى السقوط على يد القوى الفاشية في انقلاب 8 شباط 1963 وهي المعادلة التي تكررت في العهد الذي ورث السلطة عن البعث (العهد العارفي) واستمر في صيغة أخرى في عهد البعث الثاني (انقلاب 1968) الذي فتح هامشاً ضيقاً لصحافة الحزب الشيوعي سرعان ما اطبق عليه في خلال تنامي قوة وبأس النظام الدكتاتوري.

فمنذ العام 1975 ولاربعة أعوام لاحقة واجهت الصحافة العراقية تضييقاً واسعاً، فقد ضاق حكم البعث ذرعاً بصحافة حرة مستقلة عن خطابه ومشروعه لاقامة دولة الحرب، فراح يمارس القمع والإرهاب ضد الصحف والمجلات المستقلة عنه مثل «التآخي» و«طريق الشعب» و«الفكر الجديد» و«الثقافة الجديدة» في سلسلة من سياسات التحجيم من خلال الإنذارات المستمرة لهذه الصحف ومن خلال وأد ساحة الانتشار(11).

ومن الواضح ان الهجوم على الصحف المستقلة عن السلطة وحزبها وعلى صحف الحزب الشيوعي قد اتخذ هدفاً يتجاوز حدود مصادرة حقوق التعبير عن الرأي الى مشروع خطير يستهدف تغيير هوية البلاد ومضامين ثقافتها الوطنية وإخضاع مشيئتها الى إرادة فرد واحد مهووس بالسلطة والحرب.

ان محاربة الصحافة العلنية للشيوعيين ولجمها جرى دائماً في مناخ صعود الرجعية والتطرف القومي والديني والخشية من الحرية، وحاجة هذا النهج الى اخلاء الساحة من أصوات المعارضة.

«ان الأنظمة الرجعية لم تحم نفسها بقوة السلاح فحسب، بل كذلك عن طريق نشر المفاهيم المضللة والثقافات المسمومة، واستخدمت لذلك أجهزة الاعلام من إذاعة وتلفزيون وصحافة لنشر الأفكار المعادية للحرية والديمقراطية والتقدم والاشتراكية»(12).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 - قيس عبد الحسين الياسري- الصحافة الوطنية والحركة الوطنية في العراق- منشورات وزارة الثقافة والفنون – بغداد ص41

2 - د. سعاد خيري / من تاريخ الحركة الثورية المعاصرة في العراق/ الجزء الأول/ طبعة بغداد ص65

3 - وثائق المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي العراقي 1970/ كراس ص131

4 - بهاء الدين نوري/ الفكر الجديد 1/ 4/ 1978

5 - عبد الرزاق الصافي/ المسؤولية إزاء التاريخ/ مجلة الوقت عدد 12 كانون الأول 1978

6 - جعفر عبد الحميد/ التطورات السياسية في العراق/ مطبوعات جامعة الموصل ص444

7 - صحيفة الوطن 26 آب 1946

8 - جعفر عباس حميدي/ مصدر سابق ص 463

9 - فائق بطي/ الموسوعة الصحفية العراقية ص88 

10 - المصدر نفسه ص321

11 - مذكرة رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين وزعت على أعضاء المؤتمر الثالث لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وضمت الى الوثائق.

12 - وثائق المؤتمر الوطني الثاني/ مصدر سابق/ ص125

 

  • من كتاب (“من العصبة” الى “طريق الشعب”) أطروحة ماجستير 1982
عرض مقالات: