بعد أطروحاته عن فيورباخ حيث أجاب ماركس على مسألة «من سيعلم المعلم؟» من خلال طرحه للممارسة الثورية، كان لا يزال يميل الى توقع أن أفكار وممارسات الطبقة العالمة ستصل بالضرورة الى القضاء على الرأسمالية. وقبل الخوض في مدى صحة هذا التوقع، أو ما إذا كانت هناك حواجز محتملة في حالة صحة هذا التوقع، دعونا ننظر الى مدى دقة المخطط التقريبي للتاريخ البشري حتى هذه النقطة واضعن في الاعتبار أن كتاب (أصل الأنواع) لداروين لم يُنشر حتى عام 1859، وأن علم الأنثروبولوجيا (دراسة المجتمعات البشرية وثقافاتها وكيفية تطورها) لم يكن موجودا حتى تلك اللحظة كنظام. إذن، كيف يمكن لماركس أن يطور مثل هذه السرد الشامل للتطور البشري؟
لنتذكر مؤلفيه (العائلة المقدسة، ونقد فلسفة الحق عند هيغل). هناك، انتقد ماركس مفهوم هيغل الديالكتيكي للتغيير التاريخي المدفوع بأنظمة فكرية عظيمة - انطلاقًا من الوعي، فقط ليتم التغلب عليها بالوعي الذاتي، ثم تسلسل العقل والروح والدين، قبل أن يصل أخيرا إلى المعرفة المطلقة، كما كتب هيغل، في (فينومينولوجيا الروح).
ومع ذلك، اقترض ماركس جزءا من مخطط هيغل، وبدأ في ملئه بمادة جديدة، أو إذا صح القول، بأفضل ما يستطيع من المعرفة التاريخية والاقتصادية الحقيقية التي كانت تحت تصرفه. فاستبدل أنماط فكر هيغل بأنماط الإنتاج: قبلية، قديمة، إقطاعية، رأسمالية، شيوعية. حيث يؤدي هذا الترتيب المميز للحظات الإنتاجية والثقافية والتكنولوجية إلى ظهور طرق جديدة في التفكير.
إنها رؤية جريئة، وسنرى ان هذه الرؤية قد صمدت أمام اختبارات المعرفة التجريبية الأفضل والأكثر دقة، ولكن ليس بدون عقبات.
الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية
كان ماركس وإنجلز يسيران على أرضية صلبة وهما يتتبعان صعود الرأسمالية في أوروبا، وكان لاكتشاف العالم الجديد (أمريكا) وفتح طرق التجارة إلى جزر الهند الشرقية دور كبير في دعم عملية التتبع هذه. فبحلول عام 1800، انطلقت مرحلة التصنيع بالماكينات، والمعروفة باسم الثورة الصناعية، في إنكلترا. في هذه المرحلة، كما كتب ماركس وإنجلز في الأيديولوجيا الألمانية:
«المنافسة العالمية أجبرت جميع الأفراد على إجهاد طاقاتهم إلى أقصى حد. ودمرت، حيث استطاعت، الأيديولوجيا والدين والأخلاق، وما إلى ذلك، وحيث لم تستطع فعل ذلك، حولتها الى كذب بيّن. وأنشأت للمرة الأولى التاريخ العالمي لأنها جعلت تلبية حاجات كل الأمم المتحضرة وكل فرد فيها رهنا بالعالم كله، ودمرت بالتالي التفرد الطبيعي السابق للدول المنفصلة».
نلاحظ هنا ان ماركس وإنجلز أرادا التأكيد على التحولات المؤلمة التي أحدثها رأس المال. ويجادلان بأن الإمبراطورية الرومانية، بكل آثامها وشرورها، كانت شكلاً خاملًا ومحافظًا إذا ما قورنت بالآثام والشرور التي أحدثها تطور السوق العالمية. ان «المنافسة العالمية» تربط الكوكب بأسره معا تحت جرس مصنع واحد، مما يؤدي إلى انتزاع كل خصوصية سواء للأفراد أو لبلدان بأكملها.
وبعد أن أوضحا وجهة نظرهما العامة وهي أن «الحياة تحدد الوعي»، وطورا مخططا لمراحل التاريخ البشري، نجدهما يسعيان إلى دراسة تفصيلية لمدى الاختلاف الجذري لجميع المجتمعات السابقة عن رأسمالية القرن التاسع عشر. ثم يطرحان السؤال التالي: ما أنواع التشكيلات والأفكار الاجتماعية التي ستنشأ عن هذه الزوبعة؟
نظرية الثورة الشيوعية: لماذا وكيف؟
إن أحد الشرور الرئيسية لهذا الشكل الرأسمالي الجديد من التنظيم الاجتماعي هو ما يسميه ماركس وإنجلز «الاغتراب». وكان ماركس قد شرح هذه الظاهرة في (المخطوطات الفلسفية والاقتصادية لعام 1844). ويوضح كلاهما ان تقسيم العمل هذا، الذي تم ضبطه بدقة مع ظهور الرأسمالية الصناعية، له عواقب وخيمة على الأفراد:
«ذلك انه بمجرد ظهور تقسيم العمل، حتى يظهر لدى كل أمرئ مجال نشاط خاص، مجال حصري، يُفرض عليه فرضا، ولا يستطيع الهروب منه: فهو صياد بري، أو صياد سمك، أو راع، أو ناقد نقّاد، ويجب أن يظل كذلك إذا كان لا يريد أن يفقد وسائل رزقه؛ بينما في المجتمع الشيوعي، حيث لا يوجد مجال واحد حصري للنشاط، وحيث يستطيع كل أمرئ ان يترقى في أي فرع يرغب فيه، ينظم المجتمع الإنتاج كله، وبالتالي يوفر لي بالذات أن أفعل شيئا اليوم، وشيئا آخر غدا، أن أصطاد في الصباح الطرائد، ,اصطاد بعد الظهر السمك، وأقوم بتربية الماشية في المساء، وأصبح بعد العشاء ناقدا، كما يطيب لي، دون أن أصبح أبدا صيادا بريا، أو صيادا للسمك، أو راعيا، أو ناقدا».
أي طريقة بسيطة وغريبة نوعا ما لتقديم الشيوعية التي ترد للمرة الأولى في هذا المؤلف! من الواضح أن دعوة ماركس وإنجلز للشيوعية تتجاوز مجرد التوزيع العادل للثروة، فهذا مجرد شرط مسبق للهدف الحقيقي للشيوعية، وهو حرية الأفراد في الهروب من سجن تقسيم العمل.
ينتقل ماركس وإنجلز بعد ذلك من (لماذا) إلى (كيف) يتم إلغاء الرأسمالية. وقد بعثرا موقفهما في ثلاثة أقسام فرعية وفي فصول مختلفة. فبعد أن حددا، في عام 1843، الحاجة إلى «طبقة عالمية» ثورية، فانهما الآن يجادلان في أن الرأسمالية، أو «الاغتراب»:
«إذا تكلمنا بلغة يفهمها الفلاسفة، لا يمكن، بالطبع، إلغاؤه إلا في حال توفر مقدمتين عمليتين. ولكي يصبح هذا الاغتراب قوة “لا تطاق”، أي قوة يصنع الناس ثورة ضدها، ينبغي بالضرورة أن تكون قد جعلت السواد الأعظم من البشرية “بلا ملكية”، وفي الوقت نفسه، في تناقض لعالم الثقافة والثروة القائم؛ كلا هذين الشرطين يفترضان مسبقا زيادة كبيرة في القوة المنتجة، ودرجة عالية من تطورها ... إنها مقدمة عملية ضرورية للغاية، لأنه بدونها، لا يتحقق سوى انتشار الفقر بصورة عامة، وفي حال الفقر المدقع لا بد ان يبدأ من جديد النضال في سبيل الأشياء الضرورية، وهذا يعني انه لابد ان تنبعث كل الخساسة القديمة».
خلاصة القول إذا لم تكن هذه المقدمات العملية موجودة، فإن الثورة ستفشل (عدد قليل جدا من العمال)، أو ستنتصر وسنقوم فقط بتوزيع “الفقر” بالتساوي (وسائل إنتاج قليلة جدا). وباتباع هذا المنظور، أضاف ماركس وإنجلز ثلاث جمل غريبة:
«ان الشيوعية ليست بنظرنا حالة يجب أن تنشأ، وهي ليست مثالا أعلى يجب على الواقع أن يتكيف معه. نحن نسمي الشيوعية الحركة الحقيقية، الفعلية التي تلغي الحالة الراهنة للأشياء. وإن شروط هذه الحركة تخلقها المقدمة القائمة الآن». فما القصد من ذلك؟