اخر الاخبار

حين اندلعت انتفاضة تشرين في 2019، لم يكن لدى القوى السياسية الحاكمة تصور واضح عن شعاراتها، أهدافها، قياداتها، دعمها، وسرعان ما انقتلت شرارتها الى عموم الوطن، وحصلت حينذاك على دعم شعبي لا مثيل له في سنوات الاحتجاج السابقة.

وفي أيام الانتفاضة الأولى كان الهدف واضحاً، وهو التغيير، اذ لم يقبل المنتفضون حينها بحلول وسطية او إصلاحات جزئية، كما جرى في شباط 2011 وتموز 2015، حين التفت القوى الفاسدة على مطالب تلك الحركتين الاحتجاجيتين الواسعتين، وبالتالي لم يتحقق الهدف كاملاً، وهنا يأتي الاستنتاج بأن التغيير بات ضرورة.. فالإصلاح لم يعد كافياً.

وفي هذا الاطار ولغرض اثبات الاستنتاج أعلاه لابد من الإشارة اولاً الى ان من يسعى الى التغيير، ومن بينهم الحزب الشيوعي العراقي، فأنهم يعملون على تغيير بنية النظام السياسي، في حين ان الإصلاح يطال وظائفه فقط، وهنا سوف تبقى المنظومة الحاكمة، بعيداً عن محاسبة الشعب، كونها تكيف وضعها مع أي محاولة لإزاحتها والاتيان بالبديل الذي يريد بناء دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان.

ان الصراع في العراق بعد 2003 لا يزال يتمحور حول شكل ومحتوى الدولة، ولكون الازمة الحالية بنوية تمس بناء المنظومة السياسية برمتها، فأن احد ابرز نتائجها الفساد الذي طال جميع مؤسسات النظام وهنا السؤال: كيف يمكن ان نتخلص من هذه الآفة؟ ولا يكاد مجلس يخلو من الحديث عن ذلك.

فقد قال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، في جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 13-7-2021 ان حادثة مشفى الحسين التعليمي في ذي قار تمثل خللاً بنيوياً في الهيكلية الإدارية للدولة، مؤكداً في ذات الجلسة ان جهود الحكومة في مكافحة الفساد تواجه عرقلة ممنهجة.

وسبق الكاظمي بالحديث عن المشاكل السياسية والأمنية والاقتصادية والفساد رؤساء الوزراء السابقون، وحدد سلفه عبد المهدي 40 ملف فساد قال انه سيعمل عليها قبل الإطاحة به من قبل الجماهير المنتفضة.

اما رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي فقد سمى سنة 2016 عام القضاء على الفساد، واشتكى سلفه نوري المالكي مراراً من تحكم القوى السياسية في القرارات الحكومية واختيار الوزراء والمسؤولين.

وتنقل وسائل الاعلام بشكل يومي أحاديث وتصريحات وبيانات عن قضايا الفساد ومشاكل الامن وأزمة السياسة والنقص الحاد في التشريعات وخراب الدولة بشكل عام.

لمواجهة الفساد الذي هو أحد منتجات نظام المحاصصة بل هو أحد اهم اوجهها ومن خلاله تتفرع المشاكل الاخرى، طرحت القوى المدنية موضوعة التغيير والإصلاح. لكن هناك من التف على هذه الموضوعة عبر تبني إجراءات لا تمس جوهر الازمة، فهناك من يطالب بتحويل النظام الى رئاسي او شبه رئاسي لإصلاح الوضع، واخر يقول لا حل للازمة الا بتشكيل حكومة من التنكنوقراط المستقل،  الى غير ذلك من آراء وأفكار، دون ان يتناولوا نهج الإدارة والحكم، وبنية النظام الذي هو اساس الازمة، وليس طبيعة النظام البرلماني، الذي تتبناه دول متقدمة ومتطوره. فمجلس النواب هو سلطة تشريعية رقابية يمكن لها ان تؤدي دوراً كبيراً في النهوض بالبلد وحل مشاكله، في حال ترك رؤساء الكتل، لاعضائه الحرية، واتيح للكثير منهم فرصة لممارسة دورهم الرقابي والتشريعي. ولو اطلق العنان لمؤسسة النزاهة، لكان الكثير من الفاسدين الآن قابعين في السجون، وكذا الحال بالنسبة الى معالجة القضايا الاقتصادية والأمنية وقطاع التعليم والصحة والبيئة والصناعة والزراعة وغيرها.. جميعها جرى تسخير موازناتها لصالح الأقلية الحاكمة، وأصبحت تدار من قبل مافيات الفساد.

نعم كان هناك مطلب شعبي واسع في احتجاجات شباط 2011 بإصلاح الوضع السياسي، ورفع حينها شعار (الشعب يريد اصلاح النظام) لكن هذا المطلب والموقف كان متقدماً على مواقف القوى السياسية الحاكمة التي عارضت الإصلاح اساساً، وعملت على اطلاق تصريحات رنانة ووعود براقة، في خطة مكشوفة لإسكات الصوت المطالب بالإصلاح، وهنا لم يتغير الحال بعد ركود الحركة الاحتجاجية التي جرى ايقافها بالقوة تارة وبالترغيب والترهيب تارة أخرى، واستخدمت لأجل ذلك شتى الطرق والوسائل.. وامام هذه التحديات، تفاقم الوضع وفتح الباب على مصراعيه للنهب والفساد وتمكنت قوى المحاصصة والفساد من ترسيخ وجودها واستطاعت ان تضع قدماً لها في كل مؤسسات الدولة الصغيرة والكبيرة، ما نتج عنه دولة ضعيفة مفككة، اخترقها تنظيم إرهابي بسهولة، والفساد يعشعش في جميع مفاصلها، والمليشيات تتحكم بالمشهد السياسي، وبرلمانها عاجز عن تشريع قانون دون توافق القيادات السياسية، وهناك موازنات انفجارية ذهبت مع الريح، وشباب عاطل عن العمل، ونسبة الفقر ترتفع الى معدلات غير مسبوقة.. بلد لا يصنع بل يعتمد على الاستيراد ووصل به الحال الى استيراد “ اعواد الثقاب والبخور”، الرز والسكر والزيت والطحين المغشوش فوق هذا، واخيراً كشفت جائحة كورونا عن حجم الخراب الذي نحن فيه، فهل من مزيد بعد على الازمة البنيوية التي تحدث عنها الكاظمي.

لم يعد الحديث هنا، مع هذه الإشارات والدلائل، عن إمكانية اصلاح الوضع المعقد الذي يمر به بلدنا، والإصلاح هنا يأتي بإبقاء ذات النهج والمنظومة مع تكييف وضعها من جديد على امل اجراء تحسينات معينة في إدارة النظام الجديد، فهل فعلاً سيتحسن الوضع؟ وهل ستحل الازمة البنيوية المستعصية من قبل القابضين على السطلة؟

ولم يعد للجماهير المكتوية بنار المحاصصة والفساد صبر، فهبت الجموع الجماهيرية الساعية الى إيجاد حلول للأزمة، رافق ذلك تطور  في الموقف الجماهيري من الازمة العامة المركبة التي يمر بها البلد. ولم تعد التظاهرات الجماهيرية الواسعة ترفع مطالب محددة، بل تحولت الشعارات الى مطالب سياسية رئيسية مثل ( خبز – حرية – دولة مدنية)  في احتجاجات تموز  2015 و ( نريد وطن) في انتفاضة تشرين 2019.  ووصل الحال الى فرض مطلب ( اقالة حكومة عبد المهدي واجراء انتخابات مبكرة عادلة تكون بوابة للتغيير)، وهذا الموقف متأتٍ من التراكم النوعي والحس السياسي لدى هذه الجماهير بأن طغمة الحكم لم يعد بمقدورها ان تدير الأمور بذات النهج السابق، بل انها لا تسعى سوى الى البقاء في السلطة خوفاً من الوقوف خلف قضبان العادلة امام القضاء النزيه.

ان هذا التحول النوعي في صياغة الشعار الاحتجاجي ناجم عن حقيقة واقعية هي ان الشعب لم يعقد يقبل بحكم المحاصصة والفساد، وان التغيير بات مطلوباً بشكل كبير، فبعد 18 عاماً عجافاً، يريد الشعب ان يحصد ثمار التغيير الذي انتظره بعد 35 عام من حكم الدكتاتور المجرم، لذا تجد ان بعض الناس يقارنون سوء الوضع الحالي بسيئات الحكم السابق.

ان احد طرق التغيير هي الانتخابات والتداول السلمي للسلطة، وهذا الطريق لم يعد سالكاً في هذه الفترة نظراً لسيطرة القوى المتنفذة الفاسدة على المشهد البرلماني وبالتالي تجري محاولة إعادة انتاج نفسهم مرة أخرى.

وهذا ما يحتم علينا القول ان التغيير لم يعد شيئاً ترفياً، ولا يمكن العيش في هذا البلد دون ان يتحقق شيء ملموس، وليس هناك من مجال لبقاء طغمة الحكم متحكمة بالمشهد السياسي، بل ان العدالة الاجتماعية ودولة المواطنة يجب ان تسود.

لكن، هل سيأتي التغيير دون وجود برنامج عمل واضح، وتثقيف جماعي، وعمل جماهيري، وخطط مدروسة؟ انه بحاجة الى نضال واسع تراكمي لتحقيق الهدف المنشود.

ولأجل تحقيقه يتوجب على القوى المدنية والديمقراطية والوطنية مع جماهير انتفاضة تشرين وجميع النقابات والفعاليات المهنية الأخرى وفي مقدمتهم الشباب وعوائل شهداء الانتفاضة التوحد بغية العمل على تحقيق الهدف، وترك الخلافات والآراء المسبقة والسير نحو الهدف الحتمي، وهذا لن يكون دون حوار واسع على المشتركات، وتوحيد الأطر التنسيقية والتنظيمية وما اكثرها، وترك كل ما من شأنه ان يعرقل الوصول الى دولة المواطنة والعادلة الاجتماعية، دولة حقوق الانسان والحريات.

لابد من القول هنا، ان هذه القوى حاملة مشروع التغيير، تتحمل مسؤولية تاريخية في إعادة بناء ما خربته آلة النظام الطائفي العفن.

ان شعار التغيير لا يعني هنا بكل الأحوال اسقاط النظام السياسي برمته وتشكيل نظام جديد على انقاضه، العكس تماماً يجب ان يجري، عبر تطبيق البرامج الفعلية الواقعية لبناء الدولة المدنية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والتي تسعى لعيش مواطنيها بكرامة.

هذا المسعى لن يتحقق مع وجود طغمة الحكم الفاسدة، ولن يكون سوى بالنضال الجماهيري الواسع.

عرض مقالات: