اخر الاخبار

الإجابة المباشرة على هذا السؤال، هي أن الرجل يمثل السيناريو البديل لاقتصاد السوق الحر الذي نعيش فيه. فقد دار الحديث عنه هذه المرة مع إعلان أمريكا تقديم رواتب للمواطنين من الميزانية العامة، أو سيطرة حكومات أوروبية على المنشآت العامة لاحتواء آثار الأزمات التي تسبب فيها فيروس كورونا.

ويعكس هذا مناقشة جادة بلا شك حول أعمال ماركس التي مر عليها أكثر من قرن ونصف ولا تزال تفرض نفسها على واقعنا الراهن.

لكن ماركس يتم استدعاؤه في أوقات الأزمات كشبح ينذر بنهاية هذا النظام الاقتصادي، ويظل في هذه المساحة الهامشية من تفكير الكثيرين، دون أن نسمع بوضوح أسباب نقده للرأسمالية وطبيعة المجتمع البديل الذي كان يطمح إليه.

سأحاول هنا أن أنقل بإيجاز شديد بعضا من أفكاره لمن لم تتح له فرص الاطلاع عليها، ولكن قبل ذلك، نحتاج لأن ننفي أسطورتين عن هذا الرجل، الأولى أنه صاحب مذهب فلسفي لا يرى في الناس غير الجانب المادي منهم، فأصحاب هذا الرأي يرون أنه يتخيل البشر على أنهم كائنات لا هم لها غير القوت.

والحقيقة أن مذهب ماركس الفلسفي هو مذهب مادي فعلا، ولكننا نتصور ماديته على نحو خاطئ. فنّد هذه الفكرة الاقتصادي المصري راشد البرّاوي في تقديمه لترجمته العربية لكتاب ماركس الأشهر «رأس المال» حيث يقول:

»أنكر البعض مادية ماركس هذه إلا أن موقفهم منها راجع إلى قصورهم عن إدراك معناها. وليس من الصواب أنها تعد العوامل الاقتصادية المؤثر الوحيد في تطور التاريخ البشري أو تعتبر تصرفات الناس مبعثها الدوافع الاقتصادية البحتة. حيث تشير دراسة ماركس إلى الحادث الاقتصادي، فإنها تعده الأول من حيث الزمن، ولكن لا يلبث بعد ذلك أن يبدو أثر التغييرات السياسية والاجتماعية حتى في الموقف الاقتصادي».

أما الأسطورة الثانية فهي أن الرجل كان يكتب كلاما غير مفهوم يطنطن به المثقفون، كما يظهرون في الفيلم المصري الشهير «فوزية البورجوازية».

والحق أن غرابة وقع الأحاديث الماركسية على آذاننا راجع إلى طبيعة العمل الذي قام به ماركس ذاته. لقد سعى هذا الفيلسوف إلى تقصي كل تفاصيل النشاط الاقتصادي، وطرح كل الأسئلة الممكنة عن هذا النشاط بما فيها الأسئلة التي قد تبدو إجابتها لنا بديهية للغاية، مثل: ما هو رأس المال؟ كيف تتحدد أثمان السلع في الأسواق؟ من أين تأتي الأرباح؟

والمفارقة أن الأسئلة البديهية كانت إجاباتها عند ماركس مختلفة تماما عن الإجابات التي تدور في أذهاننا. فقد قام الرجل بسرد تفاصيل الحياة الاقتصادية، ولكن من منظور مختلف تماما عن المنظور المعتاد لنا. واقتضى ذلك أن يطلق ماركس مسميات جديدة على الأشياء المعروفة لنا.

 

من أهم هذه المصطلحات ما يلي:

1.القيمة: كلنا نسعى لامتلاك الأشياء التي تؤدي وظيفة في حياتنا، السيارة التي توصلنا إلى العمل والثلاجة التي تحفظ لنا الأغذية… إلخ، ولكن ما الذي يضفي قيمة على السلع تجعلنا ندفع نقودا لشرائها؟ يرى ماركس أن الوقت الذي استغرقه البشر في تحويل المواد الخام إلى سلع مصنعة ذات نفع للبشر هو منبع هذه القيمة، بشرط أن تكون السلعة قابلة للتداول في الأسواق. يكتب في «رأس المال»: «من الممكن أن يكون للشيء قيمة استعمالية دون أن تكون له قيمة، وهذا هو الشأن حيث لا تكون منفعة الشيء للإنسان راجعة إلى العمل. ومن أمثلة هذا الهواء والأرض البكر والمراعي الطبيعية… إلخ. وقد يكون الشيء نافعًا وثمرة عمل بشري دون أن يكون سلعة، فأي امرئ يشبع حاجاته المباشرة بنتاج عمله يخلق في الواقع قيمة استعمالية ولكنه لا يخلق سلعا. أما إذا شاء إنتاج الأخيرة فعليه أن ينتج قيما استعمالية للغير أي قيما استعمالية اجتماعية».

2.رأس المال: هو بالتأكيد شيء مختلف عن حزمة النقود الموجودة في حافظتك الشخصية. فالنقود تظل مجرد نقود طالما أنك تنفقها على أشياء لها فائدة في حياتك الشخصية (أكياس البقالة، مصاريف المدرسة، بنزين السيارة… إلخ)، ولكن إذا قررت مثلا أن تنفق مدخراتك على شراء عشرة أطنان من القطن الخام فهي بالتأكيد لا تمثل منفعة لحياتك الخاصة (لن تحتاج كل هذا القطن لكي تحشو مرتبة سريرك مثلا)، ولكنك تشتري هذه الخامات لكي تصنع منها ملابس مثلا ثم تبيعها في السوق وتربح من ورائها.

طالما أنك أنفقت أموالك لشراء خامات وقمت بصناعتها للحصول على أموال أكثر، فقد طبقت معادلة رأس المال الشهيرة: (ن – س – ن) أي (نقد – سلعة – نقد).

3.العمل الحي والعمل الميت: لكي تقوم بدورك كرأسمالي يربح من معادلة (ن – س – ن) لن تحتاج إلى مواد خام فقط، ولكن أيضا إلى ماكينات إنتاج وإلى نشاط صناعي، وكلا العنصرين يرى ماركس أن مصدرهما هو «العمل».

ففي قاموسه الخاص هناك العمل الحي وهو الجهد الذي يبذله العمال في مواقع الإنتاج المختلفة، ويتجسد هذا العمل في صورة السلع التي تباع في الأسواق، أما العمل الميت فهو الجهد الذي بذله عمال آخرون في المصانع التي تصنع العدد والآلات التي تعتمد عليها مواقع الإنتاج، ويتجسد العمل الميت في أدوات الإنتاج المختلفة.

هذه ليست كل المصطلحات في جعبة ماركس، ولكن على الأقل هذا ما سنحتاجه فقط لنوضح لاحقا من أين تأتي الأرباح مثلا؟ أو ما علاقة هذه الفلسفة بما يجري في حياتنا الراهنة؟ وما دور وباء كورونا في الموضوع؟

 

*صحفي مصري

عرض مقالات: