اخر الاخبار

حين قام الرجعيون ورجال الدين المتشددون بإحراق كتب “ابن رشد” خوفا من توجهاته المتحررة ونزعته العقلانية والمنطقية, وجد أحد تلاميذه يبكي أمام المشهد المؤلم, فقال له “يابني لو كنت تبكي على الكتب المحترقة, فلتعلم ان للأفكار أجنحة, وهي تطير بها إلى أصحابها, لكن لو كنت تبكي على حال العرب والمسلمين فاعلم أنك لو حولت بحار العالم إلى دموع لن تكفيك”.

وعبر المسيرة الطويلة للبشرية من أجل التحرر والانعتاق من أسر الظلم والاستبداد والقهر, تبلورت أفكار ورؤى بلا حصر استرشد بها المكافحون من أجل عالم أفضل, وناضلوا تحت رايتها في كل العصور والبلدان.

وعرفت الإنسانية- مع التطور الهائل الذي أنجزته- أن الإنجاز بدون رؤية- تتأسس بالطبع على الأفكار يمكن أن يتهاوي بأسرع مما نتصور, ولطالما أكدت التجارب هذه الحقيقة البسيطة.

وعرف تاريخ صراع الأفكار من اجل تغيير العالم الى الأفضل محطات فاصلة خاصة بعد نشوء المجتمع الطبقي، حين خرجت البشرية من الحالة المشاعية البدائية البسيطة التي اقتسم فيها الناس خيرات الطبيعة المتاحة قبل أن يضربهم سعار التملك وتنشأ الملكية الخاصة, ويستولي القادرون والشطار والمتلاعبون على الثروات المتاحة ويحتكرونها, وتعرف البشرية منذ ذلك الحين كل أشكال الصراع العنيف والسلمي.

واذا عدنا الي فيلم صلاح أبوسيف “البداية” سوف نجد هذه الحكاية الفاصلة في تاريخ الانسانية محكية بشكل فني محكم وجذاب وعميق, وهو ما يعيد إلى الأذهان مجددا النقاش العميق والممتد منذ زمن طويل حول مستقبل الاشتراكية وصيغها، خاصة بعد انهيار المنظومة التي حملت هذا العنوان لسبعين عاما كاملة.

لن يتوقف البشر أبدا عن التطلع- ومن ثم السعي إلى بناء حياة أفضل, يتخلصون فيها من كل اشكال العسف والحرمان والاستغلال, وقد ابتدعوا السبل والطرائق بدءا بالديانات, وليس انتهاء بالفلسفات والمدراس الفكرية, ثم بناء المؤسسات الحزبية والجمعيات في عصرنا الحديث للوصول الي هذا الهدف, “حياة أفضل”.

واذا تأملنا بهدوء في طبيعة محتوي الاشكال التي ابتدعها البشر للتعبير والدفاع عن مصالحهم سوف نجد قاسما مشتركا أصيلا بينها هو العمل كجماعة, والعمل كجماعة هو التعبير الأمثل عن حقيقة وصول البشر إلى المفهوم الذي أصبح عنصرا حاسما في علاقاتهم ببعضهم البعض وهو ما أطلقنا عليه وصف الإنسان ككائن اجتماعي.

وظل العمل في اطار الجماعة دائما خصما رئيسيا مؤرقا لقوى الاستغلال والاحتكار التي تطلعت دائما للتعامل مع البشر كأفراد بعيدا عن مظلة الجماعة, وغازلت في هذا السياق كل النزعات الانانية الكامنة.

وتعرضت فكرة الجماعة في إطار هذا الصراع لعمليات تشويه متواصلة إلى حد التدمير, وذلك بعد أن تبينت القوى المهيمنة عبر الواقع والتجربة ان مثل هذه الفكرة تشكل في الممارسة أمضى أسلحة المقهورين والمعذبين في الأرض على حد تعبير المناضل والكاتب الأسود فرانز فانون.

وهنا يبرز مفهوم الديمقراطية على نحو ساطع, فاذا شئنا ان نضع هذا المفهوم في سياقه الأصيل, ولا نتوقف – كما يحدث كثيرا - عند الجانب الشكلي الذي يختزل الديمقراطية في الانتخابات الدورية وحرية التعبير, فسوف تتفتح أمامنا آفاق عالم رائع وجديد يبشر بمستقبل مختلف للبشرية, يتحقق فيها الأمل حين تضع يقينها أن الله واحد, والانسان واحد موضع التطبيق.

ذلك انه, وبصرف النظر عن الجوانب الإجرائية في المفهوم الديمقراطي, فعند التطبيق سوف نجد انفسنا امام تنوع هائل في المواهب والطاقات, فضلا عن آفاق العالم الجديد التي تفتحها أمامنا الحرية, وللحرية هنا معان اعمق كثيرا وأبعد أثرا في حياة البشر. فالحرية هي الهدف الاسمي الذي تطلع اليه سعي البشرية منذ دبّ الانسان على الارض, وهي عيون الديمقراطية وقلبها.

ولطالما دارت النقاشات الفكرية والسياسية حول القيود التي يمكن أن تحيط بها الجماعة عالم الحرية حين تحل الجماعة محل الفرد, ولطالما كان مثل هذا القيد موضوعا غنيا للنقاش الفكري والفلسفي, ودعانا الفلاسفة والمفكرون للنظر بجدية الي موضوع صراع الافكار باعتباره تجليا للصراع الاجتماعي, كما دعوا أيضا الى نبذ اللامبالاة ازاء الفلسفة , مع التخلي عن النصيحة الشائعة “بلاش فلسفة” ذلك أن الفلسفة والفكر الفلسفي حتى لو لم ندرك اننا نمارسه بانتظام في حياتنا اليومية- هو سمة من سمات الانسان المتحضر, الانسان الذي كافح طويلا جدا ليخرج من مملكة الحيوان ويستوي انسانا.

ولم يتوقف الانسان ابدا- وعبر كل العصور وكل الثقافات عن الانخراط في ابتكار السبل والطرائق التي تحفظ له فرديته وهو باق مع ذلك في اطار الجماعة وحماها. فلو لم ينخرط الانسان الفرد عبر العصور في جماعات أيّا كان شكلها ومضمونها لعجز عن صنع الحضارة والتقدم المتواصل في هذا المضمار.

فهل كان بوسع الانسان ان يفصل كل هذا دون ان تكون للأفكار أجنحة تطير بها كما قال لنا ابن رشد؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

“الأهالي” – 1 أيلول 2021

عرض مقالات: