اخر الاخبار

 تختلف جذرياً طبيعة علاقة المثقف بالسلطة في البلدان الشمال أفريقية التالية: الجزائر والمغرب وتونس. ونعني بالعلاقة كيفية تعامل المثقفين على اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية والفلسفية والجمالية حيال السلطة، وكيف تتعامل هذه السلطات، عسكرية أو شرطية، من مواقعها المختلفة والمتناقضة حيال هؤلاء المثقفين، بحثاً عن التدجين أو التكميم أو النفي أو التهميش.

في هذه المقاربة الممتدة على ثلاث حلقات، سنحاول أن نفكك هذه العلاقة، أو بالأحرى العلاقات المركبة، التي يعيشها المثقف في مواجهة سلطات الدول الثلاث بالمعارضة أو المصالحة أو الخنوع أو السكوت أو الهجرة، وسنبدأ هذ الحلقات بحال الجزائر.

 الجزائر: المثقف والعسكر

تميزت بنية النظام الجزائري منذ الاستقلال بظاهرة العسكرياتية الريفية. فالسلطة في الجزائر التي خرجت من حرب تحريرية شرسة ضد الاستعمار الفرنسي، والتي توجّت بالاستقلال عام 1962، هي سلطة تقليدية محافظة وريفية بنكهة دينية في رؤيتها وفي فلسفتها للحياة الاجتماعية والمؤسساتية.

منذ الحرب التحريرية وخلالها، كانت القيادة بشكل عام، تتوجس من وجود المثقف في مقاعدها الأولى، وتعمل بشكل عام على إبعاده عن مراكز القرار، وقد كان يطلق على “المثقف” “بوعريف”، وهي تسمية يراد منها وبها الاستخفاف بالمثقف، ومعناها “المُتَفَهْمِن” “المدّعي فهماً”، وهي للتقليل من أهمية آرائه وتحليلاته، لأن هذا الأمر يزعج قيادة كان غالبية أعضائها لا يتجاوز مستواهم التعليمي الشهادة الابتدائية أو حفظ بعض آيات القرآن الكريم وبعض ما قد يرتبط بالمبادئ الأولية لتكوين تربوي ثقافي تقليدي بسيط، كما أن جميع رؤساء الجزائر لم يدخلوا الجامعة ولم يكونوا حاصلين حتى على شهادة البكالوريا، باستثناء الرئيس الحالي عبد المجيد تبون وهو خريج المدرسة الوطنية للإدارة.

وقد انعكس هذا الأمر على واقع علاقة السلطة بالمثقف في مرحلة ما بعد الاستقلال، فإذا كان الرئيس الأول للجزائر المستقلة أحمد بن بلة (1916- 2012) الذي أطيح به بعد أقل من ثلاث سنوات من الحكم، في 19 حزيران 1965، وانطلاقاً من شعبوية حماسية وجد نفسه محاطاً ببعض المثقفين من أمثال الشاعر جان سيناك وحسين زهوان ومحمد بن إسماعيل وغيرهم، وتشكلت حلقات مهمة وفاعلة في هذه المرحلة القصيرة وقد ميّزها تأسيس اتحاد الكتاب الجزائريين في 28 تشرين الأول 1963، الذي كان يرأسه الروائي والأنتروبولوجي والمناضل الثقافي الأمازيغي مولود معمري، صاحب روايته الخالدة “الربوة المنسية”. وكانت في عضوية هذا الاتحاد مجموعة من الكتاب المنتمين إلى جميع التيارات السياسية والفكرية والجمالية واللغوية، نذكر من بينهم جان سيناك وقدور محمصاجي وبشير حاج علي ومفدي زكريا ومحمد ديب ومراد بوربون ومالك حداد وأحمد أزغار وغيرهم. كما أن مجموعة أخرى من المثقفين تحلّقت حول مجلة جديدة أسسوها تحت اسم “نوفمبر” من أمثال آسيا جبار وكاتب ياسين ومحمد بودية وبشير حاج علي وغيرهم. وكانت منبراً جامعاً وطليعياً، إلا أن انقلاب 19 حزيران 1965 أعاد السلطة إلى موقفها المعادي والمتوجس من دور المثقف السياسي والفكري في جزائر تخطو خطواتها الأولى في الاستقلال.

منذ الأيام الأولى، تميّز حكم هواري بومدين (1932- 1978) بتكميم الأفواه وتفكيك المنابر الإعلامية، أو التحكم فيها بشكل أمني مطلق. وهكذاـ توقف اتحاد الكتّاب بصيغته التي رسمها له مولود معمري ورفاقه، وتوقفت مجلة “نوفمبر”، وبدأت هجرة المثقفين جراء الملاحقات والتضييق. فغادر البلد كثير من الكتاب مكرهين، من أمثال المؤرخ الكبير محمد حربي والروائي محمد ديب والمسرحي محمد بودية ومحمد أركون ونبيل فارس وجمال الدين بن الشيخ وغيرهم. والغريب أن جميع هؤلاء المثقفين والأدباء والجامعيين والباحثين استقروا في فرنسا، البلد المستعمر القديم.

أسماء ثقافية وإبداعية مركزية ورمزية عانت في مرحلة حكم الرئيس بومدين، فقد وضع الشاعر الكبير بشير حاج علي (1920-1991) تحت الإقامة الجبرية في مدينة سعيدة ثم في مدينة عين الصفراء وهي مدينة صغيرة في بوابة الصحراء الجزائرية الكبرى (من 1968-1974). ونفى شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا (1908- 1977)، وهو صاحب النشيد الوطني “قسماً”، ومات في المنفى في تونس.

ويروى أن بومدين من كثرة كرهه للشاعر مفدي زكريا الذي كان يتميز بشعبية كبيرة وبذكاء حاد، قد تفوق شعبية الرئيس بومدين، على الأقل في السنوات الخمس الأولى من حكمه، فقد أمر بتنظيم مسابقة وطنية لاختيار قصيدة شعرية جديدة تكون بديلاً من “قسماً” لمفدي زكريا. وهكذا يتخلص من رمزية هذا الشاعر. ونُظمت المسابقة الشعرية واختيرت لجنة تحكيم حيادية، وقدمت القصائد المشاركة إلى اللجنة من دون أسماء الشعراء، كي تكون الشفافية في الاختيار. وبعد المداولات، اختيرت قصيدة من بين مئات القصائد التي وصلت إلى اللجنة، وحين تم الكشف عن صاحبها، وجد بأنه الشاعر مفدي زكريا، وتم الإعلان عن ذلك، وأمر بومدين بإلغاء المسابقة وتم الاحتفاظ بنشيد “قسماً” كما هو، إذ لا داعي لتغيير قصيدة بقصيدة أخرى للشاعر نفسه، الذي كان يسعى إلى إبعاد اسمه من المحافل، والإلقاء به في سلة مهملات التاريخ.

ومن الحكايات الغريبة للمثقفين مع النظام، ترشح الشاعر والروائي الكبير مالك حداد لمنصب عضوية المجلس الوطني الشعبي (البرلمان) عن مدينته قسنطينة، وكان ذلك في عهد الحزب الواحد، وفي القائمة الوحيدة للحزب، ولم يفز بالمنصب، وهو المثقف والشخصية البارزة في قسنطينة وفي الجزائر، ما يؤكد أن أمراً قد جاء “من فوق” لإبعاده من قائمة الفائزين.

وقد واصل النظام بعد بومدين تعامله وعلاقته مع المثقفين على قاعدة الحذر والتهميش. ولا يذكر التاريخ من الذين استطاعوا أن يحظوا برضى النظام إلا القليل ممن يعدّون على أصابع اليدين، من أمثال مصطفى الأشرف وأحمد طالب الإبراهيمي ورضا مالك وزهور ونيسي. ولكن هؤلاء بشكل عام كانوا يدخلون إلى الحكومة لتوازنات سياسية أو جهوية أو أيديولوجية كان النظام يراها ضرورية بغض النظر عن كفاءاتهم أو مواقفهم السياسية أو الفكرية.

أما الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي أجبره الحراك الشعبي على الاستقالة في 2 نيسان 2019، والذي حكم الجزائر لعشرين سنة من (1999- 2019)، فقد كان يكره المثقفين ويتجنبهم ولا يحب التعامل معهم. وقد سعى في بداية حكمه، إلى جذب مجموعة من المثقفين الأجانب، إذ كان يلتقي أسبوعياً مجموعة منهم ومن الصحافيين، غالبيتهم من الأجانب حول مائدة العشاء أو الغداء أو الفطور. وكان بوتفليقة مهتماً أساسا بالبحث عن صداقة المثقفين والصحافيين الأجانب لتحسين صورته في الخارج وغير مكترث بما هو جزائري في باب الثقافة والإعلام.

والمثقفون الذين قرّبهم أو أدخلهم في حكوماته المتلاحقة، هم قلّة، وهم معروفون بالمحافظة والانقياد السهل وعدم الخوض في النقاشات الأساسية والمصيرية في البلد، التي قد تثير قلق هرم السلطة، من أمثال الشاعر عز الدين ميهوبي والكاتب الصحافي حميد قرين أو الصحافية نوارة جعفر.

وفي عهد سلطة بوتفليقة، فقدت الجزائر كثيراً من رموزها الثقافية التي كانت تقيم في فرنسا، والتي ظلت مهمشة بل منسية، حتى أنها واستنكاراً لهذا التعامل اللاحضاري، فضّلت أن تُدفن خارج البلد، ومن هؤلاء محمد ديب ومحمد أركون ونبيل فارس ورابح بلعمري وماك واري وجمال الدين بن الشيخ ونور الدين عبة والشيخ الحسناوي. وهذا الدفن خارج التراب الوطني يرمز إلى حجم القطيعة ما بين المثقفين والنظام السياسي.

إن صورة المثقف في عين السلطة الجزائرية وخلال خمسين سنة هي صورة قريبة من ملامح صورة العدو، الذي يجب الحذر من تفكيره وأفكاره. وانطلاقاً من ذلك، فقد أصرّ النظام على وضع مسافة كبيرة بينه وبين المثقفين.

ــــــــــــــــــــــــــ

 أمين الزاوي كاتب وروائي جزائري

عرض مقالات: