اخر الاخبار

سارة بانسي هي المتحدثة الاتحادية باسم الحزب الشيوعي النمساوي، وهي عضو في برلمان ولاية سالزبورغ. وجورج كورتس ساهم في تنظيم حملة الحزب الشيوعي النمساوي في سالزبورغ ذاتها، وهو يشارك حاليا في عملية تجديد حزب اليسار الألماني.

نشرت لهما جريدة «فرايتك» الأسبوعية اليسارية الألمانية في عددها 25 المؤرخ في 20 حزيران 2024، مقالة يعكسان فيها التجربة العملية الكامنة وراء النجاح الذي حققه الشيوعيون النمساويون في السنوات الأخيرة، والدروس التي يمكن استخلاصها منها.  وغني عن القول ان التجارب تُدرس ويمكن الاستفادة منها بعيدا عن الاستنساخ الميكانيكي. ولكون المقالة مكثفة ومكتوبة للقارئ الأوربي، ارتأيت اعدادها لتصبح قريبة للقراء في بلداننا.  

1 – لا تحلق مع محترفي السياسة

 المفتاح بالنسبة لكوادر الحزب وقيادييه هو عدم الانغماس في عالم محترفي السياسة، بل البقاء مع الناس. وهنا يمتلك الحزب الشيوعي النمساوي هياكل وآليات تفي بالغرض. فلكل من يرشَّح لدرجة خاصة (في سلطات الدولة) ان يحتفظ بما يساوي صافي راتب العامل الماهر (2500 يورو) كحد اعلى، ويعيد الباقي إلى السكان بطريقة غير بيروقراطية خلال ساعات الاستشارة، التي يتم فيها اللقاء مع المواطنين. فوفق الالتزام المعمول به في الحزب الشيوعي، يوجد صندوق اجتماعي لتنفيذ هذه السياسة، والتي تعني هنا تقديم المساعدة الملموسة للمحتاجين، الذين لا يكفيهم دخلهم الشهري للتخلص من المساكن العفنة، ولتغطية نفقات الايجار ومدارس الأطفال، وتوفير دورات تعلم اللغة الألمانية لغير النمساويين، وامور أخرى. وتمكّن هذه الممارسة نواب الحزب وممثليه من التعرف على الصعوبات الملموسة في حياة الناس، وتحمي مناضلي الحزب من السقوط في فخّ النفعية، ومن الانفصال عن حركة الحياة والمجتمع، وبالتالي تصبح مدخلا سليما لوضع السياسات والتكتيكات الصحيحة. كما تبعث رسالة الى الرأي العام مفادها تلازم القول بالفعل. ومن المهم أيضًا أن يستمر النواب في المشاركة في الحياة الحزبية اليومية، في الطاولات الإعلامية وفي جمع التواقيع  وطرق الأبواب وخوض المناقشات من باب إلى باب، وان لا ينحصر هذا في الحملات الانتخابية فقط. فالمساهمة في تنظيف بيوت الحزب ليست أقل شأنا من العمل البرلماني والحكومي. إذ على الرغم من أهمية هذا العمل، لا ينبغي أن يحتل مركز الاولوية. كما ان الانتخابات ايضا ليست الشيء الرئيسي، وإنما هي بمثابة اختبار لمدى نجاح أداء الحزب.

2 – تعزيز التهيئة للعمل السياسي

 يريد الحزب الوصول الى مجتمع أكثر اعتمادا على التضامن، وقد بدأ بتنظيمه. ومن المفترض أن الأنشطة غير السياسية مثل أسواق السلع المستعملة، ومهرجانات الشوارع، واجتماعات المستأجرين، والدروس الاضافية، وجمع القمامة، ومطابخ الأحياء السكنية، ونوادي الكتب، ومقاهي الإصلاح، ودورات اللغة الألمانية وما يماثلها، تُخرج الناس من العزلة وتجعل المصالح المجتمعية المشتركة ملموسة. وهذه هي الطريقة الوحيدة للقيام بدور مؤثر في الصراعات الأكبر، بهدف خلق وعي طبقي. ان التظاهرات الحاشدة والإضرابات تدخل التاريخ، لكن سنوات التهيئة للفعل السياسي وخلق التراكم المطلوب له، شرط أساسي لتأمين نجاحها.

3 – ضع الأغلبية نصب عينيك

تأتي فعالية الحزب إلى حد كبير من قناعته بانه يمثل الاغلبية بالممارسة. وهذا يمنحه القدرة على العمل خارج حدود قواعده. والحزب لا يأتي بما يفرق قواه، ولا يركز على التناقضات بين المجموعات المجتمعية المختلفة، بل يركز على المصالح المشتركة للـ 99 في المائة من السكان. وهو لا يعطي الأولوية للمصالح الخاصة للأقليات، لأن السياسة الاجتماعية الجيدة تصلح للجميع، وغالباً ما تكون أفضل سياسة للفئات المحرومة بشكل خاص، وبالتالي تفتح الطريق امام الحزب نحو إمكانية الحصول على دعم الأغلبية. لذلك، فالحزب غير مستعد لدخول صراعات ثقافية مثيرة للانقسام، وحروب هوية وسياسات رمزية. إن الحزب اليساري القوي ليس حزباً لليسار، بل هو حزب لجميع العاملين بأجر. ولا ينبغي للسياسة الطبقية أن تتوجه فقط الى الوسط الواعي من الطبقة. ولا يجب ان يستهدف الحزب المشهد اليساري وحده، بل جميع غير الراضٍين عن الأوضاع السائدة والأحزاب المتنفذة: من الأسر العادية تماماً، واوساط المنسيين، والمقصيين، والمحبطين، والمصابين بالخيبة. وعلى الحزب التوجه الى الاحياء السكنية المنسية منذ سنوات، والتي لا يصوت فيها الناس على الإطلاق أو يصوتون لليمين. وهذا هو العمل على إرساء الديمقراطية في ميادين ابتعد فيها الناس، لأسباب وجيهة، عن السياسة السائدة وقواها المتنفذة. إن حصول الحزب على دعم متزايد من هذه الأوساط وفي هذه المناطق، عامل أساسي في تغيير النظام، الذي يسعى الحزب الى تحقيقه.

4 - الابتعاد عن صراعات المصالح الحزبية

يضع الحزب الشيوعي النمساوي نفسه، بشكل واعٍ وعبر ما يميّزه ، خارج إجماع المؤسسة. وكان قد عمل مع نصف سكان ولاية سالزبورغ المقاطعين

للتصويت. ولم يدخل لهذا السبب في تنافس مع الأحزاب الأخرى في اطار المشاحنات المعتادة مثل المطالبة بالاستقالة والاتهامات المتبادلة. ويتجنب الحزب  بوعي الاصطياد في جرف الأحزاب التقدمية. فهو لا يريد ان يكون أكثر خضرة من الخضر ولا أكثر يسارية من الحزب الديمقراطي الاجتماعي، اللذين تبقى مساحاتهما وامكانياتهما محدودة. وإذا أراد الوصول الى الأغلبية، فيتعين عليه التحرك على نطاق أوسع من نطاق الأوساط التي تخاطبها الأحزاب الاخرى منذ عقود. وبهذه الطريقة، يفلح الحزب في كسب وترصين أنصار وناخبين ثابتين يستمرون معه، ولا يغيرون خياراتهم في كل انتخابات جديدة. ويرى الحزب انه كلما اجتمعت الأحزاب المهيمنة على التنديد به، كلما تأكدت رسالته في كونه “مختلفا عن الآخرين”. وإذا جرى تحذيره باستمرار - كما حدث قبل انتخابات المجلس البلدي لسالزبورغ في عام 2024 – من ان رموزه وشعاراته والملصقات التي تحمل المطرقة والمنجل، إنما تؤدي إلى تخويف الناس من «التحول إلى اليسار»، فيجب أن يكون قادرًا على تحمّل ذلك. فعندما يتعرف الناخبون بأنفسهم على سياسة الحزب ويقتنعون بها، فانهم سيمنحونه ويمنحون القضايا التي يتبناها قدرة تفوق تلك التي يحققها الحزب بمفرده.

5 -أهداف محددة

من الضروري نقل المناقشات الى ملعب الحزب، وهذا يتطلب موضوعات محددة بوضوح، لان المواطنين يحتاجون الى ملموسية والى التأكد من ان ما يطرحه الحزب وما يقوم به يهدف الى تحسين حياتهم.. وهذا ما لا يمكن فعله إذا ناضل الحزب في سبيل جميع القضايا دفعة واحدة. ولهذا السبب يتوجب على الحزب تجاوز رد الفعل المتمثل في الوقوف، في آن واحد، إلى جانب كل شيء جيد وضد كل شيء سيء في العالم. فالتغيير يتطلب تحديد الأولويات، وإلا اصبح  الحزب صفحة بيضاء اخلاقيا، فيما تملي عليه الظروف عكس ذلك. ولهذا قرر الحزب العمل على ما يجعل الأحزاب ناجحة: تركيز كل الطاقات على قضية مركزية.

6 - لا تبديد للجهد على اليمين

لم تلحق التحذيرات المستمرة من اليمين، طيلة العقود الفائتة، ضررا بحزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف، يفوق ما الحقته معاداة الشيوعية بالحزب الشيوعي النمساوي. لذلك فان الحزب الشيوعي لا يحشّد «ضد اليمين» بكتابة شعارات على الملصقات. كما لا يقدم معروفًا لحزب الحرية من خلال الانشغال به. وهو بالتأكيد لا يحسده على حديثه المستمر عن الهجرة، باعتبارها موضوعه المفضل. فالحزب الشيوعي يتحدث عن الإسكان، ويعمل باستمرار من اجل  الإسكان، ويطلق على الدوام حملات يطرح فيها موضوع الاسكان، ويسعى لفرض هذا الموضوع على الآخرين، وبذلك يضع حدا للتحريض على «اخراج الأجانب». وعلى رغم أن حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف بدا لفترة طويلة كمن لا يُقهر على الصعيد الوطني، فان ما جناه في المدن التي أحرز فيها الشيوعيون نجاحات مؤثرة، وهي سالزبورغ وإنسبروك وغراتس، جاء أقل بكثير مما كان يتوقع. وكشفت التعبئة النهائية لحزب الحرية النمساوي لانتخابات المجلس البلدي في سالزبورغ  عام 2024 عما جعل الأمر واضحاً: فملصقات مرشحهم الأول لا تقول «من أجل المزيد من عمليات الترحيل» أو أي تحريض مماثل، ولكن: „أقف هنا من أجل إيجارات رخيصة». لقد استطاع الحزب سحب اليمين المتطرف الى ملعبه، حيث يصبح من السهل التغلب عليه،نظرا لعدم قدرته على تقديم الكثير لتحقيق الشعار المذكور.

7- تقصي الموضوع الأساسي

جعل الحزب الشيوعي النمساوي من ملف الإسكان قضيته الأساسية، لأنه يجمع عاملين: نقصه الصارخ في الحياة اليومية، والذي ينعكس في الوعي العام الواسع، لأن من المفهوم للجميع أن منطق الربح يتناقض مع الاحتياجات الإنسانية . والعامل الآخر هو إجماع الأغلبية على عدم ترك ملف الإسكان هذا لآليات السوق.

8- استمرار المثابرة

على الورق يؤيد الجميع إسكانا ميسور الكلفة. ولكن إذا لم يكن هناك توقع بأن حزبا معينا سيُحدث، في حال فوزه، فرقاً فعلياً بشأن قضية ما، فلا أهمية لدوره، وبالتالي لا موجب للتصويت لصالحه. ومن أجل إحداث تغيير في ميدان خُسرت فيه المعارك عقودا من الزمن، فلا بد من تجميع لا هوادة فيه للقوى. لان  المطالبة بالتحسينات المجردة، وهي أمر بسيط، غير مؤثرة. لكن تنفيذها فعلياً يتطلب جميع الموارد المتاحة. لقد بدأ صعود الحزب الشيوعي النمساوي في مدينة غراتس في التسعينيات، باقتراحٍ قدمه العضو الشيوعي الوحيد في بلدية المدينة إرنست كالتينيغر، بأن لا يزيد إيجار الشقة في القطاع العام على ثلث دخل المستأجر. وبعد رفض الاقتراح من جانب جميع الأحزاب، قام الشيوعيون بحملة طويلة ومتواصلة جمعوا فيها 17 ألف توقيع، وحشدوا ضغطا شعبيا كبيرا، فأمكن بعدها  تمرير المقترح بالإجماع. وهذا يبيّن الجهد الذي تتطلبه حتى النجاحات الصغيرة، كما يوضح سبب تركيز الحزب على العمل في الاحياء  السكنية وليس في البرلمان.

9- بناء شخصيات جماهيرية

الحزب شخصية مجردة معنوية، وهو يحتاج وقتا كي ينال ثقة الناس. في حين ان أعضاءه يجسدون قيمه بشكل جليّ، ويتمتعون بقوة التأثير والاقناع، ويكتسبون بسرعة اكبر السمات التي يسعى الحزب لاكتسابها. وقد تحققت الشعبية والحضور، اللذين حققهما مرشحا الحزب الرئيسيين كاي مايكل دانكل في سالزبورغ أو إلكه كهر في غراتس، نتيجة للعمل المنهجي والجاد. الآمر الذي يتطلب سنوات من الثبات. والهدف هو بالطبع أن يثق الناس في المنظمة أيضا ككل. ويحرز الحزب الشيوعي النمساوي تقدما كبيرا في هذه العملية. ومع ذلك، فإن تركيز الدعاية الإعلامية على تحقيق حضور شخصي، هو شرط انطلاق ضروري.

10 – ابتسم دائما

لم تُؤت إشاعة الخوف، التي تمارسها الأحزاب الأخرى، ثمارها بالكامل، بسبب أن الحزب الشيوعي أعلن القطيعة مع فرضية «الشيوعيون الاشرار». فقد بدا الشيوعيون ودودين وبناءين بشكل ملحوظ. يبتسمون طول الوقت لأنهم يحبون الناس، ويدعونهم للانضمام لهم. وليس لديهم ما يخفونه، فهم متاحون ومرئيون بشكل دائم.  وتعكس ملصقاتهم أشخاصًا لطافا وزخارف جميلة. ولأنهم يريدون اكتساب الثقة، فعليهم أن يبدوا جديرين بها.

لا يستطيع الحزب الشيوعي النمساوي العمل وتحقيق النجاح، دون تحليل واقع البلاد الملموس استنادا الى منهجه الماركسي، وبشكل دقيق يواكب تطورات الحياة ويتفاعل معها ويتجدد. وعلى أساس هذا التحليل يضع الحزب السياسة المطلوبة، التي تشكل أرضية وأطار عمله، ويطور تكتيكاته وادواته عبر آليات عمل لا تنفصل عن تجربته التاريخية، ولا تنحصر فيها. الى جانب التعامل مع تفاصيل العمل اليومي والمشاكل التي تستجد خلال ذلك بذهنية منفتحة متغيرة، مثلما هي الحياة. وقبل هذا وذاك تبرز ضرورة وجود تنظيم حيوي عميق الديمقراطية، واسع التشارك، يتواجد بين الناس وينشط في مواقع العمل والاحياء السكنية، ويستمد جديده من حركتهم.

ويبقى الاستمرار والدأب والبحث عن الجديد، الضامن الوحيد لاستمرار النجاحات واتساعها. وبعكسه فان التراخي والرضا عن النفس والدوران في أروقة القديم، تدفع انجح الأحزاب وأكثرها شعبية الى السباحة في بحر من التبريرات والأوهام، عن وعي بما يحدث او من دونه.

عرض مقالات: