اخر الاخبار

في كتابه “قصة الفلسفة” يرى الكاتب ويل ديورانت (إن الأمل في الغاء الحروب وبلوغ مجتمع تتحقق فيه العدالة الاجتماعية يكمن في تطور الصناعة ... اذ أن الصناعة تؤدي إلى الديمقراطية والسلام، وعندما تتوقف سيادة الحرب، سوف ينهض التطور الاقتصادي وتنشأ بذلك آلاف المشاريع الاقتصادية ... ) إن هذه العبارة التي مضى عليها قرابة قرن ونصف من الزمان، والتي نطق بها الفيلسوف هنري سبنسر المولود عام 1820 قد يعتبرها الكثير من الناس البديهيات التي لا تحتاج إلى اثبات، ولكنها مع ذلك كانت غامضة وعصية على الفهم بالنسبة للحكومات العراقية في العقدين الأخيرين، فلا تزال الصناعة والزراعة تعاني وتئن تحت وطأة العديد من الاخفاقات الاقتصادية المستمرة. ولن اتطرق في هذا المقال سوى إلى واحدة منها وهي سياسة (فخ الاستيراد)، التي تعد واحدة من أهم أسباب التراجع او التخبط الاقتصادي الذي رافق العراق منذ عام 2003 ولغاية الآن.

 إن فخ الاستيراد يعني تشجيع الاستيراد المفرط وغير المبرر والسماح لدخول كل أنواع السلع والمنتجات بغض النظر عن جودتها ورصانتها أو مكان أو جهة انتاجها، ولعل كل هذا  تم برعاية العوامل الاقتصادية والإنتاجية بل وحتى السياسية الساندة التي جعلت من الاقتصاد العراقي اقتصاداً ريعياً بامتياز، وسمحت بإضعاف القدرة التنافسية للسلع الوطنية في ظل ضعف الأجهزة الرقابية الحكومية وعدم وجود حماية سعرية وكمية لبعض المنتجات التي تعاني من منافسة شديدة من بلدان أخرى، من أجل حماية العمالة الوطنية والدفاع عنها، أدت إلى تراجع حصتها من السوق المحلي امام المنافسين الاجانب وبما يسمح لهم من اتباع سياسة الاغراق السلعي الذي أدى إلى القتل المعنوي للعمل والعامل، تحت سقف الفساد الإداري و اللامبالاة الاجتماعية طوال السنوات السابقة.

ولعل القارىء الكريم يرى في هذا الكلام بعض المبالغة والاجحاف، فإن العمل السياسي الواقعي والحقيقي، في ظل الواقع المتناقض يفرض الانشغال عن التنظير الاقتصادي أو الاجتماعي، ولكن هل يمنعهم هذا من القاء نظرة ولو خاطفة وبسيطة على السوق ليشاهدوا بأم اعينهم كيف أن استيراد أي مادة يمكن صناعتها محلياً تعني خنق الايدي العاملة، فعلى سبيل المثل أن صناعة 100 باب خشبية قد تستلزم عشرات الايدي العاملة ما بين تقطيع الخشب وصناعة الباب وصبغها وتركيبها في مكانها بينما يكفي تاجر واحد لاستيراد 1000  باب خشبية وحرمان هذه العشرات من سبب عيشها الذي تقتات وتحفظ كرامتها به، ولعل الصورة تكون أكثر وضوحًا اذا علم القارئ أن في العراق أكثر من 17 ألف معمل ومصنع عملاق وكبير ومتوسط، يشكل القطاع الحكومي والمختلط منها نحو 56 %. يهدف إلى سد حاجة البلاد الذاتية وتصدير الفائض، بدءاً من الحديد والصلب والإسمنت ومواد البناء مرورا بالمواد الكهربائية والصناعات التحويلية والنسيجية ومجال البنى التحتية انتهاءً بالصناعات الثقيلة، كانت تشغل مئات الآلاف من العمال والفنيين والخبراء وكلهم تم الاستعاضة عنهم بعدة تجار ودفعهم إلى الشارع تدفعهم رياح السخط والغضب.

 إن الاستمرار في التغاضي على سياسة الاستيراد، بالرغم من سلبياتها التي لم تعد تخفى على احد، وفي ظل ضعف القوانين الضامنة لحقوق ملايين العاملين والتي لم تدفع إلى استنزاف ثروة البلاد وخنق الصناعة الوطنية المنتج المحلي فقط بل ساهمت بشكل مباشر في خلق طوابير من مئات آلاف العاطلين عن العمل، بسبب التخبط والارتجال في القرارات الاقتصادية، مع ضعف الأداء السياسي للحكومات المتعاقبة ان هذا أدى في نهاية المطاف إلى نوع من الصراع الجماهيري القابل للانفجار في أي وقت بوجه الطبقة السياسية التي عجزت عن توفير ما هو حق للموطن من استقرار أمني واقتصادي واجتماعي واكتفت بمكاسبها الشخصية على حساب الصالح العام.

عرض مقالات: