اخر الاخبار

عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات صدر كتاب (التمرد والمقاومة في الشرق القديم - بلاد الرافدين وسوريا في الألف الثاني قبل الميلاد)، للباحث الأكاديمي حكمت درباس. ويشتمل الكتاب على ستة فصول تتمحور حول تيمة التمرد والثورة والمقاومة في الشرق القديم وبلاد الرافدين والشام في الفترة 2000-1200ق. م. وما صاحبها من سقوط دول وقيام أخرى، ويقع في 328 صفحة، شاملة ببليوغرافيا وفهرسا عاما.

أسباب التمرد وأصحابه وإفرازاته وسماته

أما عن أسباب التمرد والمقاومة ودوافعهما، فقد رصد البحث منها أمثلة كثيرة وقعت غالبيتها في خانة «المحاولات الانفصالية» التي كانت تساندها دول كبرى، أو بعضها، في ذلك الزمان، أو حتى ترفض مساندتها، كما حدث حين راسل حكام كنعان الخاضعون لمصر ملك بابل طلبا لدعمه في الانتفاض على مصر لكنه رفض طلبهم كي لا يضحي بعلاقاته الطيبة مع ملكها.

وجاءت تمردات البدو في المرتبة الثانية، فهم كانوا تشكيلات سياسية أقل نضجا لم تنجح في التحول دولا منظمة، فمع سَوقهم إلى التجنيد الإجباري خلال عمليات التوسع وما نتج منه من تعطيل دورة حياتهم الاقتصادية التقليدية، تجمعوا في بلاد الرافدين وأطراف الشام ونجحوا في زعزعة الاستقرار، وأحيانا أطاحوا سلالات حاكمة بالتحالف مع قوى إقليمية، لكنهم كانوا دومًا يخرجون صفر الأيدي من أي صراع ويعودون تبعا لغيرهم كما كانوا.

أما العاديون من الناس، وهم السواد الأعظم، فلم تذكر النصوص تمردا يُذكر لهم؛ لأن التركيز ينصب على رؤوس التمرد عادة، ولا يعني هذا عدم انخراطهم في الحوادث، ولكنهم لم يكونوا ذوي أثر يُذكر في مجريات الأحداث.

وقد أفرزت حوادث التمرد ما نسميه في عرفنا الحالي ظاهرة «اللجوء السياسي»؛ إذ نجد أمثلة لبعض الناجين من زعماء التمرد فروا إلى دول مجاورة وحصلوا فيها على حق الإقامة، وكانت الأبواب توصد في وجوه بعضهم ويُعتبَرون غير مرحّب بهم، وكذلك نقرأ عن لاجئين سياسيين جرى تسليمهم في صفقات بين الحكام الكبار. ولم يكن التهجير يشمل الرؤوس فقط، بل إن رد فعل السلطة على المهزومين كان أحيانًا تهجير مناطق بأكملها، بل استبدال سكان آخرين بسكانها، وهي سياسة صيّرها الآشوريون نهجا في الألف الأول قبل الميلاد؛ ما خلّف جموعا غفيرة من اللاجئين، إضافة إلى عقوبات أخرى، كهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، وإحراقها، والتمثيل بجثث الخصوم لجعلهم عبرة لغيرهم، كتقطيع جسد زعيم التمرد والطواف به على المدن، أو بناء تلّ قبريّ على جثته لتتعظ به الأجيال التالية. ولم يكن مَن ينفذ هذه الإجراءات في معظم الحالات الحاكمَ بنفسه، بل كان يوكّل بها قبائل حليفة.

وفي المجمل، لم تكن ثمة في الشرق القديم وبلاد الرافدين والشام تمردات أو ثورات عارمة على غرار تلك التي عُرفت في الإمبراطوريات الكبيرة، ومنها الإسلامية؛ والسبب على الأرجح النطاق الجغرافي الضيق للسيطرة والإلحاق الذي لم يكن يسمح بتدمير مجتمعات وطبقات وتشكيل أخرى، كما حدث في ثورات جموع العبيد والأقنان وقوى السخرة في روما والإمبراطورية الإسلامية. كان مهد التمردات المناطق التي حُوِّلت طرفا وهُمّشت، ووقف وراءها السادة السابقون الذين حُوِّلوا أتباعا ومأمورين، وأحيانا عبيدا، كسوريا في عصر النفوذ الأجنبي، التي استثمر بعض زعمائها الصراع بين الحيثيين والمصريين ليستقلوا شكليا عن الطرفين.

الاستعانة بالدين قديما كما حديثا

وكانت الملوك تستعين أيديولوجيا في الصراع مع الخارجين عليها بالنصوص الدينية، وخصوصا «محفوظات ماري»، التي تضمنت نبوءات وكلاما ادُّعيَ أن مصدره الوحي والأنبياء، يصور الآلهة تقف الى جانب أصحاب السلطة وتؤازر الجيوش وتدوس الخصوم «الشريرين والغادرين والضالين» وتسحقهم. أما الطرف المتمرد، فاستخدم الخطاب الديني أيضا، فهناك إشارات إلى اجتماعات في المعابد وتلقي أوامر إلهية.

الإشارات الأولى إلى التمرد

في الوثائق القديمة

كان التمرد شائعا في الشرق القديم، وأقدم إشارة إلى تمرد وردت في أحد نقوش حكام سومر وأكد في الألف الثالث قبل الميلاد، وفيه يدعو ملك لجش السومري إنمْتينا على خصمه أن «يقتله سكان مدينته بعد أن يتمردوا عليه». وشكل ما سُمّي «التمرد الكبير» على نَرام-سين الأكدي مصدر إلهام في العصر البابلي القديم، فأُعيد استنساخ النصوص المتعلقة به في عدة مدن، كما ذُكر التمرد في الأساطير والملاحم أيضا، ففي «قصة الطوفان» في الأسطورة (أتراحاسيس) ورد ذكر تمرد الآلهة الأدنى «أيجيجي» على الآلهة الأعلى مقاما «آنونّاكي» ، وفي (أسطورة التكوين) ورد ذكر تمرد الإلهة تِيامَت على الآلهة الأخرى.

أهمية الكتاب

يكتسي الكتاب أهمية استثنائية، فإلى جانب أنه يسد ثغرة كبيرة في حقل دراسات الشرق القديم، وتحديدا في العراق وسوريا، بعد أن باتت المكتبة العربية تعاني نقصا ملحوظا في الدراسات التاريخية واللغوية ذات العلاقة، فإنه يناظر آخر النشاطات البحثية الواسعة في الجامعات الغربية. ويعود سبب هذه الثغرة إلى ضعف الترجمة في العالم العربي الذي ساهم في تعميق المشكلة، وإلى التشوش الذهني عن فكرتَي التمرد والثورة في الأدبيات العربية الحديثة. فقد يحمل مصطلح «تمرد» دلالة سلبية في أذهان البعض، لتصوير السلطة إياه مساويا للعقوق، في حين يتخذ مصطلح «ثورة» في الغالب دلالة إيجابية، لما يستبطنه من البحث عن عدالة مفقودة، وهو فهم يعود غالبا إلى فترة التحرر من الاستعمار والثورات الفرنسية والبلشفية والصينية. ومع أحداث «الربيع العربي» ظهرت مفاهيم حول التمرد تصفه بأنه «ثورة» لكن مآلها كان الفشل، أما في الكتاب فيستخدم مصطلح «تمرد» بمعنى حيادي لا يحمل دلالة سلبية تنزع الشرعية عن طرف وتضفيها على آخر، كما توضع كلمتا «تمرد» و»ثورة» في الحقل الدلالي ذاته، وتحيلان إلى المعنى الأولي، وهو «رفض وضع ما» أو «الاحتجاج عليه». ويعرض الكتاب أيضا للتمرد بمعناه الواسع، ومن ضمنه الانقلابات في البلاط الحاكم، واحتجاجات الأطراف التابعة أو الموالية خارج حدود الدولة، وهي الكيانات المرتبطة بالدولة من خلال معاهدات الولاء. ويعتمد نظرية «تحليل النُّظُم العالمية « إطارا للبحث، وهي تقارب التاريخ من زاوية جدلية تركز على علاقة المركز بالأطراف، طورها إيمانويل فالرشتاين، الذي قسّم العالم في فترة بروز الرأسمالية الحديثة (بين سنتي 1450 و1640) ثلاث مناطق: مركزية وشبه طرفية وطرفية، تُحدَّد منزلة كلّ منها وفقا لدرجة تحكّمها في النظام العالمي، المركز فيها هو الصناعي المتطور، والطرف يمثل المنطقة المتخلفة الفقيرة المصدّرة للمواد الخام والمستغَلة من المركز، أما شبه الطرف ففي منزلة بين المنطقتين. وجاء بعد فالرشتاين من عدّل نظريته وطبقها على الأنساق ما قبل الرأسمالية، فقد صقل ديفيد ولكنسون نظرية «جدلية المركز والأطراف» فحدد سمات مناطق فالرشتاين الثلاث قبل الحداثة بأن المركز يمثل الثراء والتقدم والقوة، بينما يرتبط شبه الطرف بالمركز بقوة ويكون أقل أهمية منه وأضعف وأفقر وأكثر تخلّفا، ويكون الطرف ضعيف الارتباط بالمركز، ويضم البدو الرحّل وفلاحي الريف الذين يعيشون على الكفاف ولم يلتحقوا بالمدنية. أما جورج مودلسكي ووليام طومبسون، فقد أرجعا أصول النظام العالمي الجديد ألف عام، أي إلى إمبراطوريات أوراسيا وأفريقيا، كالإمبراطوريات الإسلامية، في حين أرجعه باري غيلس وأندري غوندر فرانك خمسة آلاف عام، بما يشمل فترة الدراسة: الشرق القديم، فترة نشوء الدول الإقليمية في بلاد الرافدين ومصر وسوريا وآسيا الصغرى وإيران. وعلى الرغم من اكتفاء غيلس وفرانك بالخطوط العامة للنظام العالمي آنذاك وإهمالهما التفصيلات، فإن كتاب التمرد والمقاومة في الشرق القديم - بلاد الرافدين وسوريا في الألف الثاني قبل الميلاد يعتمد رؤية هذين المؤلفين مع بعض التعديلات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بتصرف عن موقع (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) – 25 نيسان 2024