اخر الاخبار

لم يعد الفقر في العراق حالة عابرة أو صفة يتبعها موصوف طارئ، إنما حالة كانت موجودة في السابق وفي نطاق ملموس بفعل عوامل عديدة أهمها عدم اهتمام الفئات البرجوازية الحاكمة طيلة العهود التي تلت ولادة الدولة عام 1921بمسألة العدالة الاجتماعية، بل ظل النظام الاقطاعي الموروث عن الفرمانات العثمانية يمد الإنتاج بعلاقاته الظالمة مع الفلاحين ويتولى عنه رأسمال اتجه نحو المدن ليشكل نواة الإنتاج الصناعي أو النشاط التجاري بعيدا عن هموم المنتجين الحقيقيين أو تابعيهم من الفقراء، نعم، لم يعد الفقر الآن إلا ظاهرة تمثلت في اتساع مضمونها ليشمل الكثير من العوائل المنتجة في الريف والأيدي العاملة في الحواضر، وتوقف دور القوى الشابة المتعلمة والمتخصصة في عملية الانتاج والتطور في المدن الكبرى، ولقد زاد الطين بلة هو العملية المبرمجة لإيقاف الكفاءات والتقليل من شأنها دفعا لها للتخلي عن دورها لصالح فئات استلت الشهادات العلمية من أسواق التزوير لتتبوأ بها أعلى المناصب الحكومية ولتملأ الدرجات العلمية حتى في أعرق الجامعات العراقية، وابتداء تشوهت الصورة تماما بعد زوال سلطة البعث الشمولية وانفلات الأوضاع جراء الاحتلال وانطلاق العديد من المتربصين والنهابين صوب الأموال العامة والأملاك العائدة للقطاع العام، مشكلين نواة قيام شريحة جديدة تنعمت بغنى فاحش غريب عنها تماما، وساعد في نمو هذه الشريحة عودة الزعامات المهاجرة وهي تحمل في جعبها مكامن الحقد على البلد وشعبه كونها تربت في أحضان الأعداء الذين تشكلت نوعياتهم بفعل عدوانية النظام السابق، وقد توحدت كل هذه الفئات بفعل عامل السيطرة على الدولة ومناصبها العليا مشكلين مادة النظام السياسي الجديد القائم على قيم جديدة بعيدة كل البعد حتى عن ثوابت الدولة القديمة المقبولة مرحليا عند المجتمع وقواه الوطنية والتقدمية.

إن مكونات الشريحة الجديدة متألقة بفعل عوامل السيطرة على الدولة وكافة مرافقها متباينة في الأصول والتوجهات، لا بل حتى في نهم السيطرة والاستحواذ، وأن اغلب العناصر المكونة لهذه الشريحة هم من بعض القادة السياسيين أو من زعامات دينية كانت مهمشة أو كانت تتحين الفرص للإيقاع بالنظام السابق أو من العناصر الكردية التي نالها الظلم إضافة الى بعض شيعة العراق،  تضاف اليها ثلة كبيرة من الوصوليين الانتهازيين الذي جمعتهم بالسياسة حب الزعامة والمال، وبعد مضي مدة تجلت هذه الشريحة بعناصر متباينة في التوجهات والنزعات والآمال ودب الخلاف بينها لتتشرنق وتفرخ احزابا أو مكونات سياسية أو مجاميع عسكرية بفعل عوامل عاطفية ناتجة عن الولاءات الطائفية أو الميول القومية بل وحتى النزعات الانفصالية، ولم تعد هذه الشريحة تنتمي إلى أصولها الاجتماعية بل غادرت مكامنها الفقيرة القديمة إلى رحاب الأحياء السكنية المترفة والباهظة الثمن والعالية المقام مثل أحياء الكرادة والمنصور والحارثية تاركة جذورها أكثر فقرا وفاقة بفعل عوامل السيطرة على أغلب أموال الدولة، وابتعدت في تنكرها لجذورها إلى حد القطيعة متجاوزة الكثير من قواعد السلوك في مجتمعنا العراقي، والغريب أنها لم تكن قد سخرت الأموال المسروقة في عملية الانتاج أو للاستثمار الداخلي بل توجهت بأغلب تلك الأموال إلى مكامن جديدة في الخارج إما في البنوك الغربية أو العربية أو الإيرانية أو حتى التركية، فكانت الخسارة مضاعفة، خسارة في أموال الدولة وخسارة في الاستثمار في الداخل، وفتحت الأبواب بكل مصاريعها نحو غسيل تلك الأموال عن طريق الاستيراد المفتوح إلى الداخل وتركت القطاع العام مشلولا محقودا عليه وتنافست تجاريا مع الرأسمال الوطني الصناعي الصغير لتقوم هذه الشريحة بالتخلي عن الانتماء إلى المواطنة لتبدأ حالة من الفرز الاجتماعي كما أطلق عليها تقرير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في اجتماعها  الاعتيادي والدوري في اليوم  الرابع الشهر الجاري، حيث يقول التقرير، إن حالة من الفرز الاجتماعي والطبقي تجري في المجتمع على نحو أوضح من السابق وأن شرائح وفئات واسعة تنضم إلى المهمشين والعاطلين عن العمل الباحثين عن لقمة العيش،  تاركة بذلك تشكيل وتوسيع طبقة الفقراء، وأنها لم تشكل لنفسها طبقة لأن عوامل تشكل الطبقات الاجتماعية لا تتوفر فيها بالتالي ظلت هذه فئة صغيرة أو شريحة همشها  التناقض الاجتماعي وظلت متحسبة خائفة، لذلك قام  البعض منها بوضع سياج أمني يحميه من غضب الناس. وأخذ هذا البعض يتنقل في مواكب مبهرة مملوءة بعناصر أمنية قوامها عجلات كان ملوك العراق لا يحلمون بها، ولزيادة أموالها تبنى الكثير من عناصرها انشاء عصابات الجريمة المنظمة أو مافيات تهريب السلاح وتجارة المخدرات أو الاتجار بالبشر أو حماية النوادي والبارات أو دور اللهو الليلية إضافة الى عمليات الاستحواذ المستمر على المال العام، وبلغت خسائر الدولة جراء ذلك ما يقارب النصف تريليون دولار.

إن الانتقال الآلي والمبرمج للمال العام إلى أيادي وصناديق هذه الشريحة، عمل على جعل خزينة الدولة خاوية حتى بات يصعب عليها تسديد رواتب موظفيها، او المتقاعدين من موظفي الدولة السابقين، وأن هذا العمل المشين لم يعد مسكوتا عنه فثار العراقيون في تشرين معلنين الحرب على هذه الشريحة الضالة، وأخذ الشباب يملأ الساحات في محافظات الوسط والجنوب، واليوم شمل التظاهر إقليم كردستان تمردا على شريحة الكرد أصحاب الغنى الفاحش التي تشكلت بعد الغزو جراء تهريب النفط أو الاستحواذ على أموال الإقليم بعيدا عن أعين ديوان الرقابة المالية أو القضاء المتخاذل في عموم العراق. 

إن قيام هذه الشريحة المتمردة ما هو الا تورم سرطاني مفاجئ أصاب المجتمع بكل طوائفه وقومياته ولم تعد محاولة السيطرة عليه بالمضادات الحيوية بالشيء النافع، وإنما يتطلب ذلك عملية استئصال تدريجي تبدأ منذ اللحظة بتشكيل جبهة للقوى المدنية والديمقراطية والتقدمية، وفق مبادئ متفق عليها تقوم على أفكار يسار الوسط، التي تأخذ بمبادئ العدالة الاجتماعية القائمة على أهمية إعادة دور القطاع العام والمختلط، وتشجيع قيام قطاع خاص فاعل في كل مجالات الحياة، ويفضل الأخذ بمبدأ الدولة الواحدة ذات النظامين، حيث عاد الكثير من المفكرين الاقتصاديين الآن إلى الأخذ بطريقة أو أخرى بأفكار الاشتراكية العلمية بعد كبوة الرأسمالية أمام جائحة كورونا، وأن يتم تجاوز النظام البرلماني باتجاه النظام الرئاسي، حيث يختار الشعب الرئيس بالانتخاب الحر المباشر وعلى مرحلتين، عندها فقط سيتضاءل تدريجيا دور الشريحة التي دخلت المسرح السياسي على مشهد من التاريخ ولكن على يد الاحتلال.