بينما كان إنجلز يبدي إعجابه بقوة الثورة الصناعية في إنكلترا، كان واعيا تماما لحجم الخسائر الى ستلحق بالطبقة العاملة التي تجعل كل ذلك ممكنا، فيكتب:
«سيظهر حجم التضحيات التي سببتها (الثورة الصناعية) لاحقا. يكفي تجوال في شوارع العاصمة ليوم أو يومين، والسير بصعوبة شاقة بين الأجساد البشرية وسيل العربات الذي لا نهاية له، وزيارة الأحياء الفقيرة في العاصمة، حتى يدرك المرء بسرعة فائقة أن هؤلاء اللندنيين قد اضطروا للتضحية بأفضل صفات طبيعتهم البشرية ... لامبالاة وحشية، وعزلة عن بعضهم البعض بحثا عن المصلحة الخاصة، وتصبح الحياة أكثر نفورا ووحشية، كلما زاد تكدس هؤلاء الأفراد معا».
لقد هاجم ماركس الاغتراب الذي فرضته الرأسمالية على البشرية في مخطوطاته عام 1844، لكن تلك المخطوطات كانت ما تزال تحمل بصمات التأمل الفلسفي، واشمئزازه من حالة الفراغ التي تمسك بتلابيب الحياة الفكرية الألمانية. أما هنا فإن إنجلز يكتشف في الأمراض والأوساخ والدم والصرف الصحي مدى الأعماق التي يمكن أن تغوص فيها الوحشية الرأسمالية. وهو يتخلى عن أي رومانسية، ليفضح كيف تغمر هذه الظروف الطبقة العاملة كلها:
«طالما أن رأس المال، الذي يتحكم بشكل مباشر أو غير مباشر بوسائل العيش والإنتاج، هو السلاح الذي تستخدمه هذه الحرب الاجتماعية، فمن الواضح أن جميع مساوئ مثل هذه الحالة يجب أن تقع على عاتق الفقير... فقد يسرق إذا لم يحصل على عمل، وإذا لم يكن خائفا من الشرطة، أو يتضور جوعا، وفي هذه الحالة ستحرص الشرطة على قيامه بذلك بطريقة غير مؤذية تماما».
في الفصل الذي يحمل عنوان «النتائج»، يتهم إنجلز الأثرياء بارتكاب «القتل الاجتماعي» ضد الفقراء من خلال إجبارهم على العمل 14 ساعة يوميا، في جو ملوث ومعاناة آلام الجهاز التنفسي، والأمراض التي تولدها مجاري المياه الملوثة، والإدمان وعنف الشوارع، المعدلات الصادمة لوفيات الرضع والأمهات، عمالة الأطفال وإهمالهم، الأمية، الحوادث الصناعية وحرائق وانهيار البيوت الخربة».
لكن هذه ليست هي النتائج الوحيدة. فدون رغبة منهم، تم دفع مئات الآلاف من العمال إلى عالم جديد مرعب. لقد كانوا الضحايا، وليسوا المستفيدين من نهضة إنكلترا. لكنهم كانوا فئة خاصة من الضحايا - ضحايا يمتلكون قوة كامنة، محتملة، هائلة.
ما هي البروليتاريا
«إذا كان تمركز السكان يحفز ويطور طبقة المالكين، فإنه يفرض تطورا أسرع للعمال. يبدأ العمال الشعور بأنهم طبقة، إنهم كل واحد؛ يدركون أنهم، على الرغم من ضعفهم كأفراد، يشكلون قوة موحدة ... يستيقظ لديهم الوعي بالاضطهاد، ويكتسب العمال أهمية اجتماعية وسياسية. ان المدن الكبرى هي الأرحام التي تلد الحركات العمالية ...».
هنا، يكسو إنجلز لحما لعظام رؤية ماركس للطبقة ذات السلاسل الراديكالية. انه يتخطى الفكرة المجردة القائلة بأن الطبقة التي لا تملك شيئا «يجب» أن تقلب كل شيء، ويشير إلى الديناميكيات الاجتماعية الحقيقية والظروف المعيشية التي تجعل من الممكن ظهور نوع جديد من التضامن الإنساني - «نظرة خاصة بالعمال». ويوضح إنجلز أن الوعي الطبقي لن يأتي من قاعة المحاضرات، بل من الإدراك الذاتي النقدي لإمكانيات الوحدة التي تنشأ من نفس الظروف التي أوجدتها الرأسمالية في المدن الكبرى.
وحسب انجلز، فإن الصراع الطبقي - والإضرابات تحديدا – هو من يحمل مفتاح خلق هذا الوعي الجديد بين العمال. فعلى الرغم من حقيقة تعرضهم خلال صراعهم للعنف المسلط من قبل سلطة أصحاب العمل والدولة، فان الإضرابات تغير الطبقة العاملة. يكتب في فصل «حركات العمال»:
«وهكذا أُجبر العمال مرة أخرى، على الرغم من قدرة تحملهم، على الاستسلام لجبروت رأس المال. لكن القتال لم يذهب سدى. بادئ ذي بدء، أدى هذا الإضراب الذي دام تسعة عشر أسبوعا إلى إخراج عمال المناجم في شمال إنكلترا، وإلى الأبد، من الموت الفكري الذي عاشوه حتى الآن؛ لقد تركوا سباتهم، وهم يقظون الآن للدفاع عن مصالحهم، لقد دخلوا في حركة الحضارة، وخاصة حركة العمال».
لا يستبعد إنجلز إمكانية الإصلاح، لكنه يؤمن أن العقبة الرئيسية أمام التقدم الاجتماعي هي أن «البرجوازية لن تستمع للتحذيرات». وبالتالي، «يجب التخلي عن كل أمل في حل سلمي للمسألة الاجتماعية في إنكلترا. الحل الوحيد الممكن هو ثورة عنيفة لا يمكن أن تفشل في حال حدوثها».
ولكن، حتى بينما يتطلع إنجلز إلى الطبقة العاملة للقيام بهذه الثورة، فإنه يواصل تشديده على الفصل بين ما أسماه ماركس «رأس» و«قلب» الثورة – لأنه، ولغاية تلك اللحظة، ظل محتفظا للمثقفين (أو على الأقل فقط لمجموعة صغيرة من العمال المستنيرين) بدور القيادة:
«أعتقد أنه قبل اندلاع حرب الفقراء المفتوحة ضد الأغنياء، سيكون هناك فهم كافٍ للمسألة الاجتماعية بين البروليتاريا، مما يسهل على المجموعة الشيوعية، وبمساعدة الأحداث، التغلب على العنصر الوحشي للثورة ... وبما أن الشيوعية تقف فوق الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا، سيكون من الأسهل بالنسبة للعناصر الأفضل من البرجوازية (التي هي، مع ذلك، قليلة بشكل مؤسف، وتتواجد بين الجيل الصاعد) ان تتقبل الشيوعية أكثر من البروليتاريين الشارتيين».
أي ان انجلز يرى الشيوعية، هنا، على أنها وجهة نظر سياسية، ولا يرى، بعد، ضرورة ارتباطها المباشر بنضالات الطبقة العاملة. في الواقع، انه يذهب إلى حد القول إن الشيوعية، ظاهريا، وبسبب معارضتها العامة للاغتراب الذي تعاني منه جميع الطبقات في ظل الرأسمالية، ستكون أكثر قبولا للبرجوازية مما يسميه «الشارتية البروليتارية البحتة»، وهو الاسم الذي يشير إلى الحركة العمالية الجماهيرية التي طالبت بميثاق الحقوق في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر في إنكلترا (سنرى لاحقا ما اذا كان انجلز قد غير وجهة النظر هذه).
من الواضح أن انجلز يدرك ان هناك مشكلة عامة في تطور الوعي السياسي داخل الطبقة المضطهدة، وأن هناك أيضا عوامل أخرى تقف حائلا أمام وحدة الطبقة العاملة، ومنها اختلافات الأعراق والأجناس والهجرة. فكيف سيتناول هذه العوامل؟