اخر الاخبار

لم يعد خراب الذمم قاصرا على القدوة، أو على المسؤولين الكبار، بل أخذ ينزلق تدريجيا على مدار عقدين نحو الدرجات الدنيا من الموظفين أو من الشرائح الاجتماعية التي تراجعت عندها قيم الوطنية أو تراخت لديها الكوابح الاجتماعية، والفساد لم يعد سلوكا معيبا عند الكثير بل أصبح مألوفا، والذي ساعد على كل هذا التوسع والانتشار هو السكوت المطبق للعائلة أو الأهل على النفر الفاسد فيها أو التراخي القضائي وتراجعه أمام القرار السياسي المخرب، والذي يهمنا في هذه اللمحة الفكرية، هو أن الفساد تسبب في تداخل الشرائح الاجتماعية بعضها مع البعض الآخر، ولم تعد هناك تلك الفواصل التي كان عليها العراقيون قبل العام ٢٠٠٣، فقد تنامى الغنى الفاحش جدا لدى أقلية كانت في أغلبها تنتمي إلى الفئات الفقيرة والتي غادرت مكامنها البائسة إلى رحاب الاحياء الباذخة، وراحت هذه الفئة تتنكر لأصولها وتتعالى على مواضيها بكل تفاصيله، وأن هذه الفئة وغالبا ( هي من السياسيين ). وعلى مر الزمن أخذت تحيط نفسها بحاشية من الأتباع والمريدين على الطريقة الإقطاعية مشكلة بذلك شريحة اجتماعية جديدة غنية بما يكفي لأن يكون لها لون وتأثير على مسرح الحياة اليومية، فهي تنفذ الأجندات وتحصل على العوائد المالية، وصارت تسكن في الأحياء السكنية متعالية على القاطن القديم ملوحة بالسلاح والمال والجاه، ولم تكن كل هذه الفئات بقادرة على تشكيل طبقة اجتماعية وفق علم الاجتماع السياسي كونها مترابطة بالمصالح لا بظروف العمل أو الإنتاج،  وقد استمكنت هذه الفئات أو الشرائح الجديدة من قضم بعض أجزاء الطبقة الوسطى وضمها إليها،  لكن السواد الأعظم من هذه الطبقة ( البرجوازية الصغيرة) ظل يكافح من أجل الصمود او البقاء، والبعض الآخر انضم تلقائيا إلى الطبقة الفقيرة،  وهكذا توسعت القاعدة الفقيرة مقابل تداخل الوان الشرائح الغنية بكل درجاتها، مما حدا بوزارة التخطيط لأن تعلن أن خط الفقر صار عند حدود الـ ٤٠ بالمئة من السكان ، والحق أنا اجد أن هذه النسبة مشكوك في دقتها سيما أن نسبة الفقر في تزايد جراء تركز الثروة كل يوم بيد الأقلية واستمرارها في الاستحواذ على مصادر الرزق من ناحية وتزايد نسبة البطالة من الناحية الأخرى، وكل ذلك تحصيل حاصل النمو السكاني بنسبة ٣ بالمئة، أي ما يعادل ، زيادة ١.٢٩٠ مليون نسمة للعام القادم ٢٠٢٥ على سبيل المثال.

أن التشوه الذي أصاب بنية المجتمع العراقي ، جراء نهم الفاسدين والفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء  رسم خطوطا جديدة لتحرك شعبي مصدره المتبقي من الطبقة الوسطى ( المثقفين والأكاديميين والمعلمين وفقراء الموظفين ) أما الطلبة فهم محسوبين على الطبقة الفقيرة ، فهم إلى جانب الخريجين والعاطلين عن العمل وصغار الفلاحين والعمال والكسبة ، وهذه الفئات جميعها إلى جانب اليسار المخضرم والتيار المدني شكلوا نواة ثورة تشرين ، وبعد قمع الثورة صاروا يشكلون السواد الأعظم من المقاطعين ، وهكذا بلغت نسبة المقاطعة وفق أكثر التقديرات واقعية ( ٨٣ بالمئة) ، وهي نسبة عالية جدا ، لأنها تعني وفق علم السياسة الأغلبية الساحقة .

طرق العلاج.

أن الحكومة الحالية تحاول أن تضع لمسات اولى للحلول ، غير أن المشكلة الأساسية ، هي مشكلة مركبة فهي إلى جانب استشراء الفساد بكل أنواعه وعلى صعيد جميع دوائر الدولة ، تجد أن وسائل التغيير غائبة ، أي أن العنصر البشري صار محور المعالجة فالفاسد واجب التغيير والصالح غائب عن التفكير ، وملخص الحل يكمن في اتجاهين الاول ، .محاربة جدية للفساد ،  وثانيا ، قرارات إدارية للتطبيق العلمي للعدالة الاجتماعية ، أي تفعيل القانون لمكافحة الفاسدين ، وإعادة النظر في رواتب ومخصصات ومكافآت العاملين، ابتداءً من ديوان الرئاسة نزولا إلى رئيس الملاحظين، مع مراعاة إعادة النظر بالنظام الاقتصادي، وإبعاده قدر الإمكان عن اقتصاد السوق باتجاه الاقتصاد المخطط على الأقل ( في مرحلة المعالجة ) ، وهذا يتطلب التوسع الحكومي في إقامة المشاريع الإنتاجية ، بدأ من صناعة المشتقات النفطية مرورا بالصناعات الثقيلة والصناعات التحويلية والاستهلاكية وصولا إلى الصناعات الغذائية ، لضمان تشغيل الأيدي العاملة من جهة ولضمان توفير العملة الصعبة لاستيراد المكائن الإنتاجية والعدد اليدوية، وان ذلك يتطلب إعادة النظر بدور القطاع العام المعطل ، والعمل بكل الجهود لرفع الأثقال عن القطاع الخاص، على أن يتم العودة إلى وزارة التخطيط ومعرفة تفاصيل خطط التنمية السابقة،

إن ما أوردناه هو أن العمل والإنتاج هما الوسيلة الاكثر ضمانا للوصول إلى عدل اجتماعي أولي تتوضح عنده حدود الاختلافات الاجتماعية المصابة بالتشوه الخلقي.