اخر الاخبار

من يريد البحث في العلاقات بين المصارف والسلطة السياسية، يمكنه البدء بالعلاقات الوثيقة بين رؤساء الجمهوريات والمصارف منذ أن كان لبنان المستقل، مع التشديد على أن مركز رئاسة الجمهورية كان محوراً أساسياً تلتف حوله المصالح المتحكمة بالاقتصاد.

 من بنك فرعون - شيحا إلى بنك سيدروس، كان لكل رئيس جمهورية ولكل عهد مصرفه. يفيد المصرف من سلطة الرئيس وعهده، ويقدّم له في المقابل ما يخدم سلطته السياسية.

في عهد بشارة الخوري، كان «بنك فرعون - شيحا» هو بنك العهد، يمّول الحملات الانتخابية للحزب الدستوري ويسلف الصحافيين لقاء خدماتهم الإعلامية. يقول عنه الصحافي شكري البخاش صاحب جريدة «الصحافي التائه» أنه كان يعين ثلاثة أرباع النوّاب ويدفع مرتبات شهرية لأربعة وعشرين منهم.

الانحياز السياسي لسلطة المال هو الذي يحفز سمير جعجع، الذي لم نجد له أثراً في امتلاك أسهم في أي مصرف، لأن يعلن «لقد بدأ عهد التأميمات!» تعليقاً على استدعاء المدّعي العام المالي أربعة مدراء مصارف استخدم كميل شمعون «بنك سورية ولبنان» الذي كان لا يزال مصرف الدولة، لتأسيس «بنك التسليف الزراعي والصناعي والتجاري» للشيخ بطرس الخوري، ورعى أبرز البنوك الناشئة - «بنك لبنان والمهجر» و«سوسيتيه جنرال» و«بنك إنترا». وفي عهده، أقرّ قانون سرية المصارف في العام 1956.

في عهد الرئيس فؤاد شهاب، برز «بنك إنترا»، لصاحبه يوسف بيدس، بما هو بنك العهد، يسيّره «المكتب الثاني» (مخابرات الجيش) ويتولى تمويل الانتخابات وتسليف السياسيين والإعلاميين. عندما وقع المصرف في ضائقة مالية لم تفده لبيدس صلاته السياسية والأمنية. تألبت عليه المصالح المالية والتجارية الخارجية والمحلية المربوطة بالخارج، فامتنعت السلطة عن تعويم المصرف.

في عهد شارل حلو، حل «البنك الأهلي» محل «بنك إنترا»، يرأس مجلس إدارته أدريان جدي، المساهم أيضاً في «بنك الاعتماد المالي اللبناني» و«الكونتوار الوطني للتوفير والتوظيف المالي» ووكيل عدد من الشركات الأميركية، بينها الشركة التي كانت تملك الحصة الأكبر في كازينو لبنان. ظل يخدم المصرف «المكتب الثاني» صاحب النفوذ المستمر فيما سمّي العهد الشهابي الثاني. وما من شك في أن المصرف أفاد بالمقابل في صفقة كازينو لبنان.

ينفرد الرئيس سليمان فرنجية بين الرؤساء، في أنه كان عضواً مؤسساً في «بنك الشرق الأدنى» وكان على صلات وثيقة برجال الأعمال الشماليين، وأبرزهم المصرفي والصناعي الشيخ بطرس الخوري وآل أبو عضل، من كبار مستوردي الأدوية.

أما الرئيس الياس سركيس، فكان رجل المصارف الأول وحاكم مصرف لبنان، الذي تولى إصلاح النظام المصرفي بعد الهزة الكبرى التي تعرض لها إثر إفلاس «بنك إنترا» في العام 1966. بعد انتهاء ولايته عيِّن سركيس رئيساً لمجلس إدارة بنك «ويدج» لصاحبه عصام فارس.

كان الرئيس أمين الجميّل محاطاً بالمصرفيين: أنطون شادر صاحب «كميكال بنك»، سامي مارون صاحب بنك «ليتيكس»، وكان «بنك المشرق» بمثابة بنك العهد الكتائبي بإدارة روجيه تمرز، الذي ولّاه الجميل أيضاً على «شركة إنترا للاستثمار». ومن مصارف تمرز «بنك الكويت والعالم العربي» و«فيرست فينيشيان» «كاپيتال ترست» و«بنك الاعتماد اللبناني».

لم يُعرَف لعهد الرئيس الياس الهراوي مصرف بعينه، على ما نعلم. تركز اهتمامه على قطاع النفط والمحروقات من خلال شراكته مع خليل غطّاس، وكيل شركة موبيل الأميركية. وتركّز اهتمام إبنه رولان بشركة كهرباء لبنان بالشراكة مع إيلي حبيقة. وفي عهده، انتقل مركز الثقل في السلطة الاقتصادية إلى رئاسة الوزراء التي تسلّمها رفيق الحريري ومن مصارفه «بنك المتوسط».

شهد عهد الرئيس إميل لحود فضيحة «بنك المدينة» المدوية وتنامى دور الشبكة الأمنية السورية - اللبنانية وحاكمية البنك المركزي في إدارة شؤون الاقتصاد والسياسة.

لن يبقى من التشخيص والتشهير إلا: شيطنة الدولة - ولو كانت دولة الليبرالية المتحولة - واتهامها بخنق القطاع الخاص. والوصفة جاهزة في إملاءات البنك الدولي وصندوق النقدفي عهد الرئيس ميشال عون، ولِد «سيدروس بنك، وقد منحه رياض سلامة هندسة مالية لرسملته وتمكين أوضاعه. راجت شائعات عن وجود مساهمين من التيار الوطني الحر ومن أسرة الرئيس عون. لم يعثر على مثل تلك الأسماء عندما نشرت لائحة المساهمين بالمصرف. لكن من سيبذل ما يكفي من الجهد في البحث، ألن يكتشف أسماء واجهة لرجال أعمال لهم صلة بالرئيس وتياره أو بسواه من السياسيين؟ مهما يكن، يكمل «سيدروس ينك» اللائحة الطويلة التي بدأت من بنك فرعون - شيحا عن العلاقة (المتبادلة) بين رؤساء الجمهورية والمصارف. (راجع، طرابلسي، «الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان»، 2016)

 ما المقترحات؟

ما الذي يترتب على ما كشفه جاد شعبان من إجراءات قانونية وعملية للفرز بين السياسيين وملكية أصول المصارف؟ منع السياسيين من الاستثمار في المصارف؟ أو منعهم من احتلال مقاعد في مجالس إدارتها؟ وعكساً، منع المصرفي من أن يمارس مسؤولية سياسية في النيابة والوزارة أو في إحدى الرئاسات الثلاث؟ إذا كان ذلك، فلماذا لا يصرح عنه جهاراً؟ ولعل الباحث يعرف أن الولايات المتحدة الأميركية لا تحرّم وجود رجال أعمال في الكونغرس ولا تمنع المشرعين الأميركيين من الاستثمار في الشركات ولا في تداول الأسهم والسندات، حتى لو كانت تلك الشركات تتأثر بقرارات قد يقترعون عليها. وفي تحقيق لصحيفة «نيويورك تايمز» العام 2020 تداول خُمْس أعضاء الكونغرس أو أفراد من عائلاتهم بأسهم وسندات. أما إحصائيات الكونغرس الأميركي في كانون الثاني/ يناير 2017 فتفيد أن 231 من أعضاء مجلس النواب شغلوا مهناً في المصارف والتجارة هو ضعف ونصف ضعف ما كان عليه الحال في المجلس السابق. والأمر نفسه يتعلق بمجلس الشيوخ حيث بلغ عدد أعضائه العاملين في المصارف والتجارة 43 شيخاً وقد كانوا 24 في المجلس السابق.

فإذا كان الباحث يقترح الفرز والتحريم بين سلطة المال وسلطة السياسة، بغض النظر عن الممارسة الأميركية، فليجهر بذلك.

في غياب أي مقترحات مستخلصة من تشخيص «رأسمالية المحاسيب» وتشريحها، كما في حالات البحث في الفساد، ولو بالدعوة إلى تطبيق «قانون الإثراء غير المشروع» واشتراع قانون «تضارب المصالح»، لن يبقى من التشخيص والتشهير إلا: شيطنة الدولة - ولو كانت دولة الليبرالية المتحولة - واتهامها بخنق القطاع الخاص. والوصفة جاهزة في إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد: وقف الإنفاق الاستثماري؛ وقف التوزيع الاجتماعي؛ وقف دعم المواد الغذائية والمحروقات؛ ترشيق الجهاز الإداري وتقليص الخدمات العامة؛ والخصخصة التي تعيدنا إلى ... «الصندوق السيادي».

ـــــــــــــــ

موقع (صفر) – 10 أيار 2023

عرض مقالات: