اخر الاخبار

كان ذلك في الواقع هربًا من الخراب، حين إنضم مراقب المطار أندريه تجوبا إلى الجيش الأوكراني، فقد كان عاملاً في مطار بوريسبيل الدولي، خارج كييف، وعضواً نشطاً في إحدى النقابات، لكنه هُدد بالطرد من عمله قبل سنتين، بتواطؤ بين صاحب العمل والقيادة النقابية التابعة له، فاضطر إلى توقيع عقدِ لمدة ثلاث سنوات مع الجيش، ليضمن الاستمرار في تلقي الأجر من مكان عمله العادي بالإضافة إلى الراتب العسكري، دون أن يدري إلى متى سيتواصل ذلك.

تمييز واستغلال

في كانون الأول الماضي، غطى العاصمة الأوكرانية صقيع رمادي، وأصبحت مهددة في الشتاء الثاني على التوالي بالغارات الجوية الروسية، طيراناً وصواريخ ومسيرات. العمال المتعبون بقوا يقضين حتى الصباح، وهم في انتظار السلام الذي يبدو بعيدًا على نحو متزايد، فيما تم تمديد خدمة أندريه تجوبا العسكرية حتى انتهاء الحرب، لكن التغييرات الأخيرة في القانون، حرمته من راتبه عن عمله السابق، رغم أن هذه التغيرات ضمنت مكافأة بأكثر من 60 ألف دولار لرئيسه، ومكّنته مالياً وقانونياً من «اقناع» القضاء برفض دعوى تجوبا ضده.

وتمثل قصة أندريه تجوبا الاتجاه المثير للقلق في أوكرانيا، ففي الوقت نفسه الذي يحارب فيه الجنود الأوكرانيون على الخطوط الأمامية، أصبح عمال البلاد هدفاً لهجوم طبقي واسع النطاق، حيث أقر البرلمان في ربيع 2022، سلسلة من إجراءات التقشف الصارمة وحرر الرأسماليين من الإلتزام بقانون العمل وحرم النقابات العمالية من دورها، وأعفى الشركات الخاصة التي تضم أقل من 250 موظفًا من الالتزام بالاتفاقيات الجماعية، وهو ما يشكل انتهاكاً لحقوق 70 بالمئة من العاملين في البلاد. كما قرر البرلمان دمج صندوق الضمان الاجتماعي، حيث كانت النقابات العمالية أحد أطراف ادارته، مع صندوق التقاعد الحكومي، لتتمكن السلطات من تخفيض أو الغاء بعض المكتسبات كالتعويضات في أيام المرض أو الحمل أو الولادة بالنسبة للنساء.

شماعة الدفاع عن الوطن 

وتتبدد كل يوم مزاعم حكام كييف، من أن الحرب مع روسيا، هي التي اغرقت البلاد في أزمة اقتصادية عميقة، خاصة وإن هذه التراجعات كانت قد أُقترحت قبل الحرب، في عام 2019، وتم إرغام السلطة على سحبها بعد احتجاجات عمالية واسعة. لكن الحرب أضرت كثيراً بحرية النقابات، حيث عمدت الحكومة إلى حظر الاحتجاجات والإضرابات، فلم تنجح النقابات، سوى بشيء من الضغط للحفاظ على بعض الإصلاحات المؤقتة، والتي يمكن أن يتم التراجع عنها مع تواصل الحرب، وهو ما بدا واضحاً في محاولات شل الحركة العمالية بشكل دائم، والجارية اليوم.

تعدد النقابات

وتتميز الحركة النقابية الأوكرانية بالتعقيد، فهناك منظمتان نقابيتان رئيسيتان في البلاد:

الأولى هي اتحاد نقابات العمال الحرة في أوكرانيا (KVPU)، والتي ترى بأن المهم دحر ما تسميه بالعدوان الروسي، قبل الحديث عن استعادة العملية الديمقراطية مرة أخرى، مدّعية بأنها تناضل من وراء الكواليس للتأثير الإيجابي على الحكومة والبرلمان. وقد تأسس هذا الإتحاد مع انهيار الأتحاد السوفيتي، وارتبط بحركة الاستقلال الأوكرانية. كما يرتبط الإتحاد بعلاقات وثيقة مع مسؤولين غربيين، حيث يعلق رئيسه ميخايلو فولينيتس، صورته مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، على جدار مكتبه. ورغم أنه كعضو بالبرلمان، يُعّد معارضاً للسياسة النيوليبرالية، لكنه نصير قوي للانضمام للناتو وللاتحاد الأوربي.

ويضم هذا الاتحاد اطيافاً متناقضة، فهناك من يلهث وراء حكومة زيلينسكي ويبرر كل اجراءاتها التعسفية ضد العمال، وهناك من يعتقد بأن السياسة النيوليبرالية لا تضر بالعمال فحسب، بل وحتى بالروح القتالية للناس. كما لا تتفق أطياف ثالثة مع سيل المساويء التي تلصق بالمرحلة السوفيتية، وترى بأنها كانت ضامنة لحقوق العمال والفقراء بشكل عام.

أما الثانية فهي اتحاد نقابات العمال الأوكراني (FPU)، أكبر منظمة نقابية في البلاد، والتي يمتد تاريخها لعقود طويلة، وكان من أبرز نشطائها، قادة بارزون في الحزب الشيوعي الأوكراني، وتضم حالياً أبرز المدافعين عن مصالح العمال الأوكرانيين. ورغم انها منظمة متمكنة مالياً وتمتلك الكثير من العقارات ومراكز التأهيل العمالي ومجمعات الراحة العمالية وغيرها مما ورثته من أيام الأتحاد السوفيتي، إلاّ أنها تعاني من حصار شديد من السلطات وأجهزة الأمن، إلى الحد الذي تقول فيه أبرز ناشطات الإتحاد، ورئيسة الاتحاد الأوكراني لعمال التصنيع والذي يضم حوالي 5000 عضو، ناتاليا زيمليانسكا، من أنها لن تتفاجأ إذا ما اكتشفت بأنهم يتنصتون على مكتبها، مشيرة إلى تعرض اتحادهم لضغوط هائلة، منها اعتقال وتغييب نائب رئيسه فولوديمير ساجينكو منذ ديسمبر 2022، وتفتيش وملاحقة نشطائه بشكل مناف للقانون والصاق تهم الفساد الكاذبة بهم. ومن المفارقات المضحكة تكليف أولينا دوما، رئيسة «أرما» بالإشراف على ممتلكات الإتحاد، في وقت تعرضت فيه هذه السيدة لانتقادات حادة من قبل منظمة الشفافية الدولية في أوكرانيا، بشكل اضطرت معه سلطات كييف تكليفها برئاسة اتحاد كرة القدم الأوكراني بدلاً عن ذلك.

صراع طبقي لا ينته

وأخيراً، يشير العديد من النشطاء النقابيين إلى أن التشابه المربك بين المنظمتين النقابيتين الحاليتين في البلاد، KVPU وFPU، ليس من قبيل الصدفة، فقد تم إنشاء الأولى بهدف محاربة المنظمات العمالية الموجودة في أوكرانيا، حيث قامت منظمة (ارما) بطرد النقابيين من مكاتبهم والسماح لاتحاد السلطة بالسيطرة على ممتلكاتهم وتصوير الأمر للعمال وكأنه إعادة تنظيم نقابي داخلي. كما يرفض هؤلاء النشطاء الحرب، مؤكدين بأن عمال روسيا في ظل حكومة بوتين ليسوا أحسن حالاً منهم. ويرى هؤلاء بأن لا مفر من مواجهة حرب بوتين والنضال ضد أجندة الإصلاح النيوليبرالية في آن واحد.

عرض مقالات: