اخر الاخبار

يبدو أن هناك ارتباكًا عامًا حول ماهية الشعبوية، ففي أغلب الصحف العالمية يقرأ المرء عن الشعبويين اليمينيين واليساريين، ويرى محاولات لتغييب الفرق بين ترامب أو ساندرز، وبين لوبان أو ميلينشون، فكلهم شعبيون، يميناً ويسارا. ولهذا فمن المهم، بإعتقادي، أن يتم التمييز بين هذين الشكلين للدعوات السياسية، لأن اليمينيين المتمثلين بترامب ولوبين وغيرهم، ليسوا شعبويين، بل ديماغوجيين، لأنهم ببساطة، يفتقدون النية أو الرغبة في تحسين حياة الناس، حتى وإن تمّكنوا من اقناع قطاعات واسعة منهم، بمعنى انهم يسعون للحصول على الدعم من خلال مناشدة الرغبات، بما فيها الغرائز، والأحكام المسبقة للناس، بدلاً عن استخدام الحجج العقلانية.

أقرب لليسار

اما الشعبوية اليسارية فإنها تتبنى بشكل عام، معارضة الشركات المتعددة الجنسية، وتدعو لتحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل والثروة وتنظيم الاقتصاد. وتتخذ هذه الحركات التي يعود تاريخها إلى أكثر من قرن من الزمان، اشكالاً مختلفة، وتظهر بمستويات متباينة من القوة والتأثير، وتسعى لإعتماد المهمشين والمحرومين وضحايا الإستغلال قاعدة اجتماعية لها.

كما تتميز هذه الحركات بقدرتها على بناء علاقة وثيقة بالناس والخروج من الأبراج العاجية للسياسيين، والوصول لعقل وقلب الناخب العادي. وهي سمة يسارية بإمتياز، رغم أن اليسار لا يشترط ذلك فقط، بل يعتمد ايضاً على مدى تحديد مطالب الناس ومشاكلهم وعلى مدى نجاحه في دحض الرسالة الديماغوجية لليمين وإيجاد البديل المناسب عند التواصل مع الناخبين.

وبسبب هيمنة النخب اليمينية الفاسدة وتبعيتها المخجلة لرأس المال المالي، ولتقلص فرص بناء اقتصاد وطني مستدام ومتوازن، والتحكم بالتغير المناخي الخطير، وتحقيق تكافؤ حقيقي للفرص، تحظى بعض من هذه الحركات اليسارية الشعبوية بتعاطف محلي ودولي كبير، بين الفينة والأخرى.

لكن الفرق الجوهري بينها وبين اليسار الجذري، يتمثل في تبنيها لسياسة تتجاوز الانقسامات الطبقية، ولا تتمتع فيها أي طبقة اجتماعية بدور مميز. وانها ليست خصماً للرأسمالية بل لفساد الأقلية، ولا تؤمن بالمواجهة بين العمل ورأس المال، بل بصراع المدينين مع الدائنين وبكفاح الناس ضد الطغم المالية. كما يشير الفرق بين الطرفين إلى اهتمام هذه الحركات الشعبوية، كثيراً بإثارة الأوهام واستغلال التأييد الشعبي الكبير في تعميمها، حتى إذا ما أدى ذلك إلى مصادرة رأي الناس واختزاله برأيها او أحيانا برأي قياداتها، دون أن تعير اهتماماً لما يمكن أن يسببه ذلك من مشاعر احباط وغضب بين الناس. وتعمد الشعبوية ايضاً إلى تبني توقعات عالية، وحين تفشل ويصيب مواقفها ضعف جلي، تهرع وتتبني تفسيرات مضحكة لتبرر ذلك. وعلى أية حال، فهناك فارق كبير جداً بين الشعبوية اليسارية واليمين الديماجوجي، تجعلها أقرب لليسار منها لليمين وحتى للوسط.

تصاعد الحركة

لقد انتعشت بعض الحركات الشعبوية اليسارية في نهاية القرن الماضي، في أوربا بشكل خاص، لأسباب متعددة منها تقلص النشاط الجماهيري لليسار الجذري، وتبني الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية للمفاهيم النيوليبرالية أو مهادنتها، والركود الاقتصادي، الذي أفقد النقابات القدرة على انتزاع بعض الحقوق في إطار درجة من التوزيع الأقل قسوة للثروة والسلطة في المجتمع. كما جاء هذا الإنتعاش أيضاً، في ظل تحجيم دور الأحزاب والنقابات والنوادي والجمعيات المجتمعية، وتجاوز الشركات متعددة الجنسية على الديمقراطية البرجوازية، للحد الذي بات فيه الدور القيادي للبرلمانات على المحك.

وكان الصراع الفكري، بين من أصرّ على التمسك بالدور الطليعي للعمال في تحقيق مشروعه السياسي، رغم تراجع ذلك بقوة، وبين من دعا لمنح هذا الدور لتحالف عابر للطبقات على حساب «النقاء الإيديولوجي»، تأثير بارز في تهيئة أرضية مناسبة بشكل ما لهذا الإنتعاش.

أزمة مفيدة

وقد خلقت أزمة عام 2008 فرصة لهذا اليسار بالتطور، حين فُرض التقشف وانهارت أسعار المنازل وخسر «التعايش الطبقي» بريقه وفقدت الشبيبة ثقتها بالتطور التقني الذي يحقق كل الأحلام. وأدى ذلك لأن تشهد الشوارع والساحات حراكاً جماهيرياً واسعاً، وصل حداً يشبه الانتفاضة العامة.

وعلى الرغم من عدم قدرة الشباب على تحقيق نتائج ملموسة، لأسباب كثيرة، من أبرزها غياب البرامج الموحدة، فإن الحراك قد أثمر عن قيام أدوات سياسية جديدة، ذات سمات تنظيمية وفكرية وامكانيات انتخابية، إضافة إلى قدرات تعبوية مباشرة ورقمية، خاصة عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، التي احتلت الفراغ الذي خلفه غياب دور المنظمات الجماهيرية أو ضعفه، واستبدال النشاط الأفقي للعمل بين الجماهير بالإتصال عبر الإنترنيت والإعتماد على كاريزما الفرد القائد، وتجاوز الانقسامات الإيديولوجية التقليدية، وتحميل طغمة الأقلية (الأوليغارشية) المسؤولية الكاملة عن الأزمة.

لكن هذا التطور المهم، سرعان ما اصطدم بمجموعة من الإشكاليات، ارتبط قسم منها بمهادنة بعض من هذه الحركات للنيوليبرالية، كما فعل حزب سيريزا اليوناني مع مطالب الإتحاد الأوربي التقشفية، او أدت لها، الانقسامات الداخلية الشرسة والاستقطابات الناجمة عن الاختلافات السياسية الحادة، كما حصل لحزب بوديموس الإسباني جراء الموقف من استقلال كاتالونيا. وينطبق الحال على حركة فرنسا الأبية، فعلى الرغم من نجاحها في تجاوز خصومها من يسار الوسط، إلا أنها فشلت في الحصول على الأغلبية في الجمعية الوطنية بسبب عدم قدرتها على بناء قاعدة جماهيرية منظمة ووضع حد لنمو حزب التجمع الوطني بزعامة ماري لوبان، وتحولها لرفع العلم الفرنسي بدل العلم الأحمر، وعزف اللامارسييز بدل النشيد الأممي. ويمكن ان يكون المثالان الآخران عن تمكن كوربين من القفز إلى قمة حزب العمال رغم كل الصعاب قبل أن ينحدر بسبب استسلامه للحرب الفئوية القاسية وحملات التشهير الإعلامية ضده، وعن نجاح ساندرز في تجديد شباب اليسار الأمريكي من خلال حملته الرئاسية الأولى، والذي تبدد عندما اقترب أكثر من المؤسسة الديمقراطية خلال سنوات ترامب واندمج فيها بالكامل في عهد بايدن.

ويرى بعض المفكرين بأن هناك عوامل رئيسية ثلاثة، أضرت كثيراً بهذه الحركات اليسارية وهي:

  1. اضفاء الطابع الشخصي على الحركة، بحيث أدى فقدان الرئيس لهالته السحرية إلى تبديد جماهيرية الحركة.
  2. فشلها في تثقيف الناس، ليكون لهم نشاط فاعل وثابت، رغم نجاح الرقمنة في تعبئة الملايين من الناخبين الساخطين أو غير المنتمين إلى أي حزب.
  3. حرمانها من بناء تنظيمي قوي ذي انضباط مناسب، بسبب هياكلها الحزبية الفضفاضة، التي لم تك مفيدة ربما، سوى في سرعة اتخاذ القرارات.

خاتمة

وهكذا تشير الأحداث إلى أن الدورة اليسارية الشعبوية الأوروبية والأمريكية، التي استمرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تبدو منهكة اليوم وفي طريقها، ربما، لتتخلى في الغالب عن استراتيجيتها الشعبوية، وتصبح احزاباً يسارية برلمانية، مما يستدعي تقييم الأسباب التاريخية لظهورها وانحسارها، واستخلاص الدروس المفيدة لليسار في نضالة المتواصل في القرن الحادي والعشرين.

عرض مقالات: