يحكى أن ضفدعاً ظمآناً حائراً.. قفز إلى قدرٍ مملوءٍ بماءٍ باردٍ، لإرواء عطشه والاستمتاع بالسباحة بهدوءٍ. لكن الحقيقة أن ناراً بدأت تشتعل تحت القدر، فأخذ الماء يسخن بلطفٍ ويصبح فاتراً، بيد أن الضفدع مازال يجد متعةً في مواصلة السباحة. الحرارة تزداد ويصبح الماء ساخناً، وهنا لم يغدو الوضع مثالياً بالنسبة للضفدع وبدأ يشعر بتعبٍ لكن لم يجد بعد ما يدعوه للذعر. الماء غدا بعد ذلك حاراً جداً، والضفدع بدأ يكره ذلك وشعر في الوقت نفسه بالوهن والخدر لكن ذلك دفعه إلى مزيدٍ من التحمّل والسكون والبقاء مشدوداً إلى الأسفل. الماء الآن يغلي ويفور.. فأنسلق الضفدع ومات ببساطةٍ.

دفعتني حكاية الضفدع المسلوّق هذه إلى مقاربة وضعنا البيئي الحالي، أو بالأحرى “وضعنا نحن” مع بيئتنا، الذي يقودنا إلى مثل هذا النوع من الانتحار البطيء غير المحسوس.

في مدينة أسمها “البصرة” على وجه التحديد، وهي بوابة لجنة عدن؛ إذ كانت غابات النخيل تكسو ربوعها، وعذوبة أنهرها تحيي بساتينها، وزرقة سمائها الساطعة تلوّن آفقها، وفسيفساءٌ مدهشةٌ من الحيوانات والنباتات تزيّن طبيعتها، وإذ كانت بساطة مجتمعها وطيبة أناسها يضفي عليها سكينةً وتواضعاً نادرين؛ فإن ثمّة الآن من أوقد ناراً تحت “قدر” البصرة الذي يحوي على كل هذه السماحة الفطرية.

اشتعلت النار تحت القدر منذ أن علمنا أن ثروةً وفيرةً من النفط تربض في جوف هذه الأرض، ومنذئذٍ والبصرة مسوّرة ـ بداعي الاستثمار ـ بأحزمةٍ ناريّة متوهّجة.. تلفظ في كل ثانيةٍ دخاناً قاتماً خانقاً. وههنا يفعل التغير المناخي فعله؛ إذ ترتفع الحرارة بما يفوق ضعفي معدل الكوكب، ويتصاعد التبخر بوتيرةٍ سريعةٍ مجففاً معه كل ما موجود من مسطحاتٍ مائيةٍ نادرةٍ، وتتسع رقعة التصحّر باضطرادٍ، وترتفع التوقعّات بمزيد من عواصف الغبار. يتجذر الملح وينبت هنا فوق التراب متزامناً مع تعاظم تملّح ماء النهر وامتلائه بملوثاتٍ شتى عوضاً عن الأسماك التي كانت يوماً تسرح وتمرح فيه. وفي وقتٍ تخيّم سحب الغاز فوق سقف “منطقة التضحية” هذه بوصفها ضريبة مستحقة للتمتع بموارد النفط الوافرة، فإن تنفّس الهيدروكربونات وغيرها من السمّوم بات أمراً مقضياً. 

نحن هنا، نشبه إلى حدٍ كبير ذاك الضفدع الذي غفل عن نفسه للحظاتٍ فأنسلق بالماء الساخن بعدما شُلت قدرته على الحراك بالرغم من إدراك الخطر متأخراً. تتراكم السمّوم في أجسادنا رويداً؛ والكثير منا أمسى يمضي قبل الأوان لأنه لم يعد يطيق تجرّع مزيداً من السمِّ؛ وإنني لأذكر بهذه المناسبة بعضاً من ضحايا هذه “الغفلة” على سبيل المثال لا الحصر: إذ فقدنا الشاب علي حسين جلّود (21 سنة) بسبب مرض سرطان ابيضاض الدم بعدما امتص جسده النحيل كل سمّوم مشاعل شركة BP النفطية التي كانت تلفظها بالقرب من منزله، وقبله ماتت فاطمة نجم (13 سنة) بالمرض ذاته بسبب دخان شركتيّ شل وإيني، ومن قبلهما قضى مصطفى زين العابدين (14 سنة) نحبه متأثراً بانبعاثات شركة لوك أويل.. وهكذا فإننا ننتظر الدور مع طوابير طويلة أخرى من الموتى المحتملين في هذا القدر الساخن الذي سيبلغ قريباً نقطة الغليان.. فنهلك جميعاً دفعةً واحدةً.

يقال إن التجارب المخبرية أثبتت أن الضفادع إنما تقفز هرباً فور وضعها في وعاءٍ ذي ماءٍ ساخن، لأنها تستشعر السخونة حالاً، على النقيض من التسخين التدريجي. ويمكن تشبيه هذا الوصف أيضاً بالسلطة الحاكمة التي اعتادت على القفز من القدر واللوذ بالفرار بمجرد مواجهتها بالحقائق عن حتميات هذا الموت المؤجل لأبناء جلدتها، فتحاول دوماً التملّص من مسؤوليتها في إيقاد عود الثقاب الذي ألهب النار أسفل هذا القدر الكبير. ولا أظن أن السلطة لا تعيّ ممارستها لنوعٍ مما يدعى بالعنف البطيء ـ كما يسميه الأكاديمي والناشط البيئي الأمريكي روب نيكسون ـ وهو عنفٌ يكون في العادة غير مثير ولا مرئياً لأن عواقبه لن تظهر إلا بعد زمنٍ طويلٍ.

في تصوريّ أن هذا العنف السلطوي الخفي قد بدأ منذ لحظة الإمضاء على ما يعرف بعقود التراخيص مع شركاتٍ نفطٍ أجنبية (الواجهة المنمقة للاستعمار الجديد Neocolonialism)، التي يحتم عليها الجشع استغلال نفوط هذه الأرض بأبشع وأسرع وجه ممكن. إنّ السلطة ومعها عمالقة شركات النفط المتحالفة، يعرف كليهما حقّ المعرفة أن القفز من القدر الساخن في الوقت المناسب هو النجاة بالنسبة إليهما. أما نحن (القابعون في قعر القدر منذ أجل بعيد).. فلا شيء يستثيرنا حتى الآن.. نحن المحكمون بالموت مع تعاظم محنتنا البيئية، من دون شعور بالخطر المحدق من حولنا؛ لأننا بتنا في مرحلة الوهن والخدر التي تجعلنا نقبل بسوء الحال، مترقّبين “السلق” عاجلاً أم آجلاً.. مثلما حصل مع صديقنا الضفدع المسكين! 

___________

*أكاديمي وخبير بيئي

عرض مقالات: