بعد أن أسفرت حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيشه على قطاع غزة، حتى الآن، عن استشهاد أكثر من 21 ألف فلسطيني وفلسطينية، أغلبيتهم الساحقة من المدنيين، ناهيك عن المئات من الفلسطينيين الذين ما زالوا تحت الأنقاض، وعن عشرات الآلاف من الجرحى، نشر بنيامين نتنياهو، في 25 كانون الأول/ديسمبر الجاري، مقالاً في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، طرح فيه ثلاثة شروط لإنهاء الحرب على قطاع غزة، وهي: «تدمير حماس، ونزع السلاح من غزة، وتغيير التوجه الفلسطيني في القطاع».

فبخصوص الشرط الأول، أكد أن «تدمير» حركة «حماس» يشكّل شرطاً لا غنى عنه، «لأنه الرد الوحيد لمنع تكرار الفظائع والضمان الوحيد بعدم وقوع المزيد من الحرب وحمام الدم»، مقدّراً أن تحقيق هذا الهدف سيحتاج إلى «حرب طويلة»؛ أما الشرط الثاني، المتمثّل في نزع السلاح من غزة، فهو يتطلب، كما أضاف، «إقامة منطقة أمنية موقتة متاخمة للسياج وآليات رقابة على الحدود بين غزة ومصر، تلبي الحاجات الأمنية الإسرائيلية، وتمنع تهريب السلاح إلى المنطقة»؛ بينما ينطوي الشرط الثالث على «قيام نظام جديد في غزة، بحيث يتعيّن على المدارس تعليم الأولاد تقديس الحياة، وليس الموت، ويجب على الأئمة في المساجد التوقف عن الوعظ بقتل اليهود، ويجب تغيير المجتمع المدني الفلسطيني، بحيث يصبح مؤيداً لمحاربة الإرهاب، بدلاً من دعمه، وهذا يتطلب زعامة شجاعة، وزعيم السلطة أبو مازن غير قادر، حتى على إدانة فظائع السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بينما ينكر بعض وزرائه وقوع هذه الجرائم، ويتهمون إسرائيل بأنها هي التي ارتكبت هذه الجرائم بحق شعبها».

جيش الاحتلال يغرق في مستنقع غزة

تفترض تلبية الشروط الثلاثة التي وضعها بنيامين نتنياهو انتصار جيش الاحتلال في الحرب التي يشنها على قطاع غزة ونجاحه في القضاء على المقاومة الفلسطينية التي ما زالت تواجهه، بكل بسالة، حتى في المناطق الشمالية من القطاع التي توهم أنه قادر على القضاء على المقاومة فيها بعد أيام قليلة من توغله البري في أراضي القطاع؛ فهل انتصار جيش الاحتلال في هذه الحرب المستمرة منذ أكثر من ثمانين يوماً هو أمر محسوم؟

عن هذا السؤال، يرد الصحافي باسكال برونيل، في مقال نشره في 24 من الشهر الجاري في صحيفة «LesEchos» الفرنسية بعنوان: «الجيش الإسرائيلي يغرق في مستنقع غزة»، ذكر فيه أن قطاع غزة يتحوّل إلى «مستنقع» يغرق فيه الجيش الإسرائيلي الذي يواجه صعوبات كبيرة «لكسر جهاز حماس العسكري، مرة واحدة وإلى الأبد». فعلى الرغم من المجازر المرتكبة، فإن مقاتلي هذه الحركة «يرفضون الاستسلام ويواصلون القتال»، بينما تبدأ الأخبار في محطات التلفزة والإذاعة الإسرائيلية «كل يوم تقريباً بإعطاء أسماء الجنود الذين قتلوا في ذلك اليوم، والوحدة التي خدموا فيها، والقطاع الذي ماتوا فيه، ثم تتبع ذلك صور جنازات العائلات الباكية».

ونقل برونيل عن المعلق العسكري في إذاعة الجيش الإسرائيلي قوله: «فعلى أرض الميدان من المحتمل أن الجنود يتعاملون مع لعبة أصعب مما كانوا يعتقدون؛ فبعد أكثر من شهرين من القتال البري، ما زال الإرهابيون لا يرفعون الراية البيضاء، لقد تعلموا معرفة نقاط ضعفنا ويعرفون أين يضربوننا»، وخصوصاً أن ساحة المعركة «تتركّز في مساحات ضيقة، وأزقة ضيقة حيث يمكن لأدنى زاوية أن تخفي عبوة ناسفة يتم تفعيلها عن بعد، ويمكن لمجموعات صغيرة جداً من المقاتلين أن تخرج على حين غرة من أحد آلاف الأنفاق التي بنتها حماس وتطلق صاروخاً مضاداً للدبابات قبل أن تغوص مرة أخرى تحت الأرض، ناهيك عن جميع المنازل التي من المحتمل أن تخفي قناصة يبحثون عن هدف».

ويتابع الصحافي نفسه، فيكتب: «إن توتر الجنود المستمر، والشعور بأنهم تحت رحمة الفخ المنصوب في نهاية الشارع، يزرع البلبلة ويدفعهم في بعض الأحيان إلى إطلاق النار دون مراعاة قواعد الاشتباك»، وهو ما تسبب «في مصرع العديد من الجنود بنيران صديقة»، كما تسبب، في 15 كانون الأول/ديسمبر الجاري، في قتل «ثلاثة رهائن إسرائيليين تمكنوا من الفرار بينما كانوا يلوحون بعلم أبيض ويرتدون ملابسهم الداخلية لإثبات أنهم ليسوا انتحاريين».

إسرائيل تخسر هذه الحرب

تحت هذا العنوان، نشر توني كارون، رئيس تحرير قناة الجزيرة + AJوالمحرر الأول السابق لمجلة «تايم»، ودانيال ليفي، رئيس مشروع الولايات المتحدة/الشرق الأوسط، والمفاوض الإسرائيلي السابق مع الفلسطينيين، في 8 كانون الأول/ديسمبر الجاري، مقالاً مشتركاً في مجلة «The Nation» الأميركية، قدّرا فيه «أنه على الرغم من العنف الذي أُطلق العنان له ضد الفلسطينيين، فإن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها السياسية»، وهي «لا تتجه نحو النصر أو ضمان استقرار الوضع»، وأضافا: «قد يبدو من السخافة الإشارة إلى أن مجموعة من المسلحين غير النظاميين، الذين يبلغ عددهم بضع عشرات الآلاف، تحت الحصار ولديهم قدرة محدودة على الوصول إلى الأسلحة المتقدمة، يمكن أن يكونوا منافسين لواحد من أقوى الجيوش في العالم، الذي تدعمه وتسلحه الولايات المتحدة».

واستشهد الباحثان المذكوران بما قاله جون ألترمان، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، الذي اعتبر أن إسرائيل «تواجه خطراً كبيراً بالخسارة أمام حماس»، ذلك إن «مفهوم حماس للنصر العسكري، يدور حول تحقيق نتائج سياسية طويلة الأمد؛ فحماس لا ترى النصر في عام واحد أو خمسة أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال الذي يزيد من التضامن الفلسطيني ويزيد من عزلة إسرائيل».

وبعد أن ذكر الباحثان أن تقديرات الجيش الإسرائيلي «تشير إلى أنه قضى حتى الآن على أقل من 15% من القوة القتالية التابعة لحماس، وذلك في حملة أسفرت عن مقتل أكثر من 21 ألف فلسطيني، معظمهم من المدنيين، منهم 8600 طفل»، اعتبرا أن «حماس» تتبنى «منظوراً فلسطينياً شاملاً، وليس منظوراً خاصاً بغزة»، ذلك إن مناورة حماس «ربما تتمثل في التضحية بالحكم البلدي في غزة المحاصرة لتعزيز مكانتها كمنظمة مقاومة وطنية، وهي لا تحاول دفن حركة «فتح»، إذ إن اتفاقيات الوحدة المختلفة بين حماس وفتح، وخصوصاً تلك التي يقودها أسرى من كلا الحركتين، تظهر أن حماس تسعى إلى تشكيل جبهة موحدة، ذلك إن السلطة الفلسطينية غير قادرة على حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية من العنف المتزايد الذي تمارسه المستوطنات الإسرائيلية وسيطرتها الراسخة، ناهيك عن الرد بشكل هادف على سفك الدماء في غزة».

وبينما كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتباهى، قبل أسابيع قليلة فقط من السابع من أكتوبر، بأن إسرائيل «نجحت في إدارة الصراع إلى درجة أن فلسطين لم تعد تظهر على خريطته للشرق الأوسط الجديد»، وكان بعض القادة العرب، مع اتفاقيات أبراهام والتحالفات الأخرى، «يحتضنون إسرائيل»، جاء يوم السابع من أكتوبر بمثابة «تذكير حاد اللهجة بأن هذا الأمر لا يمكن الدفاع عنه، وأن المقاومة الفلسطينية تُعد شكلاً من أشكال سلطة النقض على الجهود التي يبذلها الآخرون لتحديد مصير الفلسطينيين». وتابع الباحثان أن حركة «حماس» من خلال «تصفية الوضع الراهن الذي يجده الفلسطينيون غير محتمل، أعادت السياسة إلى الأجندة؛ من الصحيح أن إسرائيل تتمتع بقوة عسكرية كبيرة، لكنها ضعيفة سياسياً، ويخلصا إلى أن «حماس» ليست «داعش»، كما يحب الساسة الغربيون ووسائل الإعلام تصويرها، بل هي، في الواقع، «حركة سياسية متعددة الأوجه متجذرة في نسيج المجتمع الفلسطيني وتطلعاته الوطنية، وهي تجسد اعتقاداً أكدته عقود من الخبرة الفلسطينية بأن المقاومة المسلحة تشكل عنصراً مركزياً في مشروع التحرير الفلسطيني، بسبب فشل عملية أوسلو»، مقدريّن أن الحملة الإسرائيلية «قد تؤدي إلى تقليص القدرة العسكرية لحماس»، وإلى «قتل كبار قادة المنظمة»، لكنها ستؤكد «رسالة حماس ومكانتها بين الفلسطينيين في مختلف أنحاء المنطقة وخارجها»؛ وبينما تتابع الأحداث «بعد ثمانية أسابيع من الانتقام، فإنه لا يمكن القول إن إسرائيل تنتصر».

وهم الحل العسكري في غزة

وفي الاتجاه نفسه، اعتبرت الباحثة في مؤسسة البحوث الاستراتيجية في باريس، لور فوشيه، أن أهداف الحرب التي حددتها الحكومة الإسرائيلية، وأبرزها «تدمير حكومة حماس وقدراتها العسكرية»، و»ضمان الأمن على الحدود الإسرائيلية، وإعادة الرهائن إلى إسرائيل»، هي أهداف «تفتقر إلى الواقعية، وتتعارض مع التكاليف البشرية الباهظة التي يتكبدها سكان غزة». ففي هذه المرحلة، يبدو «أن حماس، بكل فروعها مجتمعة، بعيدة كل البعد عن التفكيك؛ ووفقاً لتصريحات القوات المسلحة الإسرائيلية نفسها، فقد قُتل بضع عشرات من قادة الجناح المسلح للجماعة الإسلامية - كتائب عز الدين القسام- ومن بينهم قادة كتائب، فضلاً عن عدة مئات من المقاتلين»، ولكن «لم يتأثر بعد معظم كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين»، فضلاً عن أنه لدى الحركة «سلسلة قيادية مستعدة لتولي المسؤولية».

ونظراً إلى أن استمرار إسرائيل في عملياتها العسكرية بالوتيرة الحالية، قد يكون له عواقب «أكثر دراماتيكية» على قطاع غزة وسكانه «من دون ضمان إمكانية تحقيق أهداف الحرب حقاً»، فإن الدرس الذي يجب استخلاصه من الحرب الحالية هو «أن تقليص القضية الفلسطينية إلى إدارة أمنية، مصحوبة ببعض التنازلات الاقتصادية، لن يضمن الأمن للإسرائيليين»، الأمر الذي يفرض على أوروبا تحديداً «أن توضح لإسرائيل، رغم أن الأمر غير مسموع في هذه المرحلة، أن أمن مواطنيها لا يمكن أن يتحقق دون حل المعادلة السياسية للقضية الفلسطينية»، و»إطلاق عملية سلام حقيقية في المستقبل».

خاتمة:

يطمح الأكاديمي ونائب رئيس جامعة تل أبيب، إيال زيسر، في مقال نشره في صحيفة «يسرائيل هيوم» في السابع من الشهر الجاري، إلى أن تحقق إسرائيل في غزة «انتصاراً» وليس «صورة نصر»، معتبراً أنه من الأفضل للإسرائيليين «التركيز على تحقيق الحسم في المعركة حيال حماس وحزب الله، وخلق واقع أمني يسمح بتحرير المخطوفين والمفقودين وعودة النازحين إلى منازلهم في غلاف غزة، وفي الشمال»، لكنه يضيف بأن «الانتصار في الحرب لا يعني نهاية الحرب على الإرهاب»، ذلك إن الحرب ضد «حماس» هي «حرب ضد تنظيم إرهابي يتحرك وسط سكان مدنيين يقدمون له الحماية والتأييد، وليس ضد جيش نظامي وراءه دولة»، معتبراً أن الصراع ضد «حماس»، هو «صراع طويل ومستمر وحاد»[5].

فما طبيعة هذا «الانتصار» الذي يطمح إليه هذا الأكاديمي «المعروف»؟

عن هذا السؤال، ردّت صحيفة «لوموند» العريقة في التاسع من هذا الشهر، بصورة غير مباشرة، في افتتاحية بعنوان: «إسرائيل تُضيّع نفسها في مذبحة غزة»، ورد فيها أنه «منذ أكثر من شهرين، فإن ما أصبح روتيناً مروعاً يتواصل في غزة، حيث يُضاف القتلى إلى القتلى، والجرحى إلى الجرحى، والدمار إلى الدمار من دون أن نتمكن من رؤية النهاية؛ ومن خلال اللجوء إلى حق النقض، في الثامن من كانون الأول/ديسمبر، إزاء مشروع قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لصالح وقف إنساني فوري لإطلاق النار، ضمنت الولايات المتحدة، المعزولة، استمرار العقاب الذي تفرضه إسرائيل على شعب بأكمله». وتتابع الصحيفة أن «حصيلة الاستراتيجية الرامية إلى القضاء على الميليشيا الإسلامية بأي ثمن أصبحت الآن أمام أعين كل من يريد أن يراها: الموت في كل مكان، والمستشفيات التي تحتضر، والعوز، وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين المدفوعين كالماشية بأوامر إسرائيلية من منطقة في غزة إلى ثانية، ثم إلى منطقة ثالثة، بينما صرخات الإنذار التي يطلقها مسؤولو وكالات الأمم المتحدة على الأرض، الذين يبذلون، على الرغم من الازدراء الإسرائيلي، جهوداً مثيرة للإعجاب لمنع الفوضى من أن تضاف إلى الخراب، يتردد صداها في فراغ».

وبعد أن أشارت الافتتاحية إلى أن «هذه المذبحة غير المسبوقة» ليس هناك ما يبررها «لأن النتائج التي تم الحصول عليها حتى الآن لا تزال بعيدة عن الهدف المعلن»، وأن «تضييع إسرائيل نفسها في هذه الحرب، ليست مفاجأة، للأسف، بقدر ما هي انعكاس لانحرافها، ذلك إن الدولة العبرية كانت قد مزقت نفسها قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر بشأن أساس عقدها الاجتماعي: موقع القانون، وذلك في ظل هجمات التيار القومي المتطرف والمسياني الذي ينخرها منذ أكثر من نصف قرن»، اعتبرت أن الولايات المتحدة التي «لا تحمي إسرائيل من نفسها»، ترتكب «خطأ أخلاقياً لن تتمكن من تجنب آثاره المدمرة»، وأن ممثلها في الأمم المتحدة الذي سوّغ لجوءه إلى حق النقض في الثامن من هذا الشهر بتأكيده «أن الهدنة ستزرع بذور الحرب المستقبلية»؛ يتجاهل حقيقة أنه بينما «تستمر القنابل التي تزوّد بلاده إسرائيل بها في حرث غزة من دون تحييد المدنيين»، فإن «هذه البذار الحديدية لا يمكن أن تنتج على هذه الأرض المدماة سوى الكراهية التي يتعذر إطفاؤها».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحث ومؤرخ - مؤسسة الدراسات الفلسطينية - بيروت.

عرض مقالات: