اخر الاخبار

في عاصمة الترفيه الأميركية، يدفع مشاهير كثيرون، منذ أكثر من شهرين، ثمن مواقفهم الرافضة لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، في وقت لم تعد تنطلي فيه محاولات التضليل والبروباغندا المهترئة التي يبثها الغرب والكيان الصهيوني على الرأي العام العالمي. إلا أن ما يحصل يستدعي حقبة مظلمة حين أطلق السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي «حملة الخوف» في الخمسينيات، التي اضطهدت عشرات المثقفين والفنانين والكتاب اليساريين والنقديين وهجرتهم بتهمة التآمر على المصالح الأميركية

في منتصف القرن الماضي حين كان «الذعر الأحمر» في أوجه وسط حملة هستيرية للتخويف من الشيوعية، كانت «لجنة الأنشطة غير الأميركية» التابعة لمجلس النوّاب في الولايات المتحدة تعقد سلسلة من جلسات الاستماع العلنية للمخرجين والكتاب والممثلين الهوليووديين الذين «اتُهموا» أو اشتُبه بأنهم شيوعيون. نتيجة لهذه الجلسات، وُضعت قائمة «هوليوود 10» (قائمة سوداء ضمت مجموعة من الكتاب والمخرجين والممثلين) خلف القضبان، حين رفض المدرجون ضمنها الإدلاء بشهادتهم، من بينهم السيناريست الشهير دالتون ترامبو الذي رفض الإدلاء باعترافاته لـ «لجنة الأنشطة غير الأميركية» عام 1947 بخصوص تدخل الشيوعية في صناعة السينما، فمنع من العمل ككاتب سيناريو لمدة عشر سنوات، كتب فيها أشهر أفلامه تحت أسماء مستعارة. حتى إن من لم يدانوا بأي «جريمة»، كانوا غالباً ما يُدرجون في القائمة السوداء، وبالتالي ترفض شركات الإنتاج العمل معهم. بفعل مشاعر الخوف التي سادت يومها، أصبحت مروحة واسعة من الناس على استعداد للشهادة ضد الآخرين، حتى لو كانوا أصدقاء وأبرياء، تجنباً للاشتباه بهم. بالتالي، خلقت هذه التحقيقات نظاماً كاملاً دمر الحياة المهنية في عالم صناعة السينما، وأرغم بعضهم على مغادرة البلاد، لا بل تسبب أحياناً في حالات انتحار.

في تلك الفترة الحالكة من تاريخ هوليوود، رأى كثيرون أن اليهود كانوا المستهدفين الحقيقيين، وسط إصرار على الترويج دوماً لفكرة أنهم يسيطرون على هذا المجال. رأي يؤيده المؤرخ ستيفن كار الذي سبق أن صرح لصحيفة «ذا غارديان» البريطانية أن الادعاء بأنّ «اليهود يسيطرون على هوليوود كان دائماً ذريعة قديمة لاستهدافهم بسبب ماهيتهم. هذا النوع من الاتهامات سبق أن كان بمثابة حجر الزاوية في الارتكابات النازية التي أدت إلى تجريدهم من حقوقهم كافة حتى أدت إلى الإبادة الجماعية التي ارتكبها هتلر في حقهم». ما يقصده مؤلف كتاب «هوليوود ومعاداة السامية: تاريخ ثقافي حتى الحرب العالمية الثانية» هو أن صناعة الفن السابع في الولايات المتحدة أُنشئت على يد جيل من اليهود الآتين من أوروبا. فقد أسس كارل لايميل الألماني المولد استديوات «يونيفرسال بيكتشرز»، فيما بنى أدولف زوكور المولود في المجر ما أصبح في ما بعد «باراماونت». أما وليام فوكس، وهو ابن مهاجرَين من المجر، فأسس شركة «فيلم فوكس كوربوريشن». كما انطلقت استديوات «وورنر براذرز» على يد أبناء بنيامين وورنر، وهو مهاجر بولندي كان ــــ من بين وظائف أخرى ـــــ صانع أحذية في بالتيمور. وكان أشهر قطب سينمائي في ذلك الجيل هو لويس بي. ماير، رئيس شركة «مترو غولدوين ماير» الذي ولد في روسيا واعتمد الرابع من تموز ـــــ وهو اليوم الذي يُحتفل فيه باستقلال الولايات المتحدة ـــــ موعداً للاحتفال بولادته الجديدة في أميركا.

واقع يرى كثيرون أنه شكل لاحقاً أرضية استندت إليها عملية صيد الساحرات في نهاية أربعينيات وبداية خمسينيات القرن العشرين. وهو ما أُطلقت عليه أيضاً أوصاف عدة من بينها طبعاً «معاداة السامية» التي استحالت اليوم شماعة يعلق عليها الغرب وإسرائيل الاعتداءات المختلفة التي ترتكب في حق مناهضي الاحتلال الصهيوني.

شكّل السابع من تشرين الأول الماضي نقطة مفصلية على أصعدة مختلفة، أبرزها تعرية انحياز هوليوود إلى الصهيونية تماماً. صناع القرار هناك يفعلون حالياً ـــ بشكل لا لبس فيه ــــ ما كانوا ينتقدونه قبل عقود، إذ تمعن هوليوود في استهداف الفنانين بسبب معتقداتهم وآرائهم، تماماً كما يحدث في أي نظام ديكتاتوري. وفق تقرير نشرته شبكة «إن بي سي نيوز» الأميركية، يرفع نجوم هوليووديون اليوم الصوت في وجه ما يعتبرونه «رقابة وانتقاماً في صناعة ترتكز على التعبير وحريته».

في عاصمة الترفيه الأميركية، يدفع مشاهير كثيرون، منذ أكثر من شهرين، ثمن مواقفهم الرافضة لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، في وقت لم تعد تنطلي فيه على الرأي العام العالمي محاولات التضليل والبروباغندا المهترئة التي يبثها الغرب والكيان الصهيوني. أحدث العدوان الإسرائيلي انقساماً حاداً في هوليوود التي دائماً ما عُرفت بوحدة الكلمة في المجال السياسي (كلنا نذكر موقفها من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وحركة «حياة السود مهمة»، والإجهاض، وحرب أوكرانيا...). وصل التباين إلى حد طرد «المختلفين» من العمل، ومقاطعة من يعبرون عن موقف مضاد للمجازر الإسرائيلية في غزّة، ما يؤكد على تبدل المشهد جذرياً، وفق ما لاحظت صحيفة «ذا تايمز» البريطانية.

منذ سنوات طويلة، لا تتوانى النجمة الأميركية الحاصلة على أوسكار سوزان ساراندون عن التعبير عن مواقفها السياسية. منذ بدء العدوان الأخير على غزّة، تشارك في تظاهرات في أنحاء مختلفة من بلادها تدعو إلى وقف إطلاق النار وتدعم فلسطين. وفي إطار «معاقبتها»، ألغت وكالة المواهب UTA، الشهر الماضي، تعاقدها معها بعد تعاون بدأ في عام 2014. وطُردت الممثلة المكسيكية ميليسا باريرا من الجزء السابع من سلسلة الرعب السينمائية «سكريم» بسبب انتقادها على السوشال ميديا لأميركا وإسرائيل ومطالبتها بوقف إطلاق النار في غزّة. وبعد ساعات من استبعاد باريرا التي تجسد شخصية «سام كاربنتر»، انتشر خبر انسحاب الأميركية الشابة جينا أورتيغا من الشريط نفسه الذي يفترض أن تلعب فيه دور «تارا كاربنتر». علماً أن الممثلة البالغة 21 عاماً معروفة بآرائها الرافضة للممارسات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين.

في سياق متصل، أُرغمت الرئيسة المشاركة لقسم السينما في «وكالة الفنانين المبدعين» (CAA)، الأميركية ــ الليبية مها دخيل، على الاستقالة من مجلس الإدارة بعد منشور انتقدت فيه العدوان الإسرائيلي على غزة، واتهمت الكيان الصهيوني بارتكاب إبادة. وتمثل دخيل نجوماً بارزين من بينهم توم كروز وآن هاثاواي وريس ويذرسبون وأوليفيا وايلد.

يثير هذا الشكل من العقاب قلق المدافعين عن حرية التعبير، أمثال الممثلة والناشطة دونزالي أبيرناثي، ابنة رالف أبيرناثي أحد المدافعين عن الحقوق المدنية وحفيدة مارتن لوثر كينغ. «أنا آسفة جداً للممثلين الذين عانوا لأنهم عبروا عن رأيهم. لا أعتقد أن هذا عادل. خلاصة القول إنه يتعين علينا معرفة كيفية إنقاذ الأرواح، ولا ينبغي لنا أن نعاقب بعضنا. هل يُعاقب دعاة الحرب والتمييز ضدهم؟ لا أعرف. لكن الحرب يجب أن تتوقف... ».

وعلى الرغم من هذا الواقع، يستمر العديد من الفنانين في إعلاء الصوت ضد ما يحدث، نذكر منهم برادلي كوبر، وألفونسو كوارون، وسيلينا غوميز، وجانيل موناي، ولوبيتا نيونغو، وجينا أورتيجا، وخواكين فينيكس، ومارك رافالو، ومارك رايلانس الذين كانوا من بين أكثر من 260 شخصاً وقعوا على رسالة مفتوحة تحث جو بايدن والكونغرس على الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. ومن الأسماء التي برزت إلى الواجهة أخيراً في إطار مواجهة الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، الممثلة الأميركية سينثيا نيكسون. انضمت الأخيرة في نهاية الشهر الماضي إلى إضراب عن الطعام أمام البيت الأبيض، لمطالبة الرئيس الأميركي جو بايدن بتحويل الهدنة في غزة إلى وقف دائم لإطلاق النار وإنهاء الحرب الإسرائيلية على القطاع. وقالت الممثلة التي اشتهرت بشخصية «ميراندا هوبس» في مسلسل «سكس آند ذا سيتي» وسبق أن ترشحت لمنصب عمدة مدينة نيويورك، أمام حشد خارج البيت الأبيض إن طفليها يهوديان، وأجدادهما من الناجين من المحرقة، وتابعت: «لقد طلب مني ابني استخدام أي طريقة لأقول بصوت عالٍ قدر الإمكان ضرورة عدم تكرار ما حدث في الماضي». وأشارت إلى أن «إسرائيل في سبعة أسابيع قتلت في نطاق جغرافي ضيق عدداً من المدنيين يفوق مجموع من قتلوا في 20 عاماً من الحرب في أفغانستان بأكملها»، مضيفة: «لقد سئمت وتعبت من الناس الذين يفسرون ذلك بالقول إن الخسائر في صفوف المدنيين هي حصيلة روتينية للحرب. لا شيء روتينياً في هذه الأرقام. ليس هناك شيء روتيني في ما يتعلق بهذه الوفيات».

براين كوكس يوجّه تحيّة إلى «صوت غزّة»

في التّحفة الدرامية التلفزيونية Succession (الخلافة ــ HBO)، يقدّم براين كوكس (1946) أحد أروع أدواره: إمبراطور الإعلام الأميركي لوغان روي. الصراحة الفجة، إحدى أبرز الصفات التي يتشاركها الممثل الإسكتلندي الشهير مع هذه الشخصية الآسرة بكلّ تناقضاتها. وأخيراً، قرر كوكس التعبير عن دعمه للفلسطينيين في وجه آلة الحرب الصهيونية التي تبيدهم منذ السابع من تشرين الأوّل الماضي، بطريقة تعبر عن تفرده. هكذا، نشرت «احتفالية فلسطين للأدب» على منصاتها الافتراضية وقناتها على يوتيوب مقطعاً مصوّراً (1:01 د) لبراين كوكس، يقرأ أمام الكاميرا قصيدة If I Must Die (إن كان لا بدّ أن أموت) التي كانت آخر ما نشره بالإنكليزية أستاذ الأدب الإنكليزي في الجامعة الإسلامية في غزّة، رفعت العرعير (1979 ـــ 2023)، قبل أن يُستشهد الأسبوع الماضي مع أخيه وأخته وأفراد من عائلته في غارة إسرائيلية. جاء ذلك بعدما تعذرت على كوكس المشاركة الحضورية في أمسية أدبية لندنية، أمس الأربعاء، من تنظيم «احتفالية فلسطين للأدب»، وهي مبادرة ثقافية ملتزمة بـ «خلق أفكار ولغة خطاب لمقاومة الاستعمار في القرن الحادي والعشرين»، تسلط منذ بدء العدوان الضوء على الجرائم الإسرائيلية، فيما تحشد الدعم للفلسطينيين وتنظم أنشطة على الأرض وعبر الإنترنت بهدف نشر الوعي حول الموضوع.

الفيديو الذي يُعدّ تحيةً لـ «صوت غزّة» الذي كان أحد مؤسسي مشروع «نحن لسنا أرقاماً» ولعب دوراً محورياً في دعم كتّاب القطاع المحاصر، حظي برواج واسع على مواقع التواصل الاجتماعي التي ثمن كثيرون من روادها خطوة كوكس «الشجاعة».

تجدر الإشارة إلى وجود قاسم مشترك بين كوكس والعرعير. فالأول من المحترفين في المسرح الشكسبيري الكلاسيكي كما أنه عضو في «فرقة شكسبير الملكية» في ستراتفورد. أما الثاني، فمتخصص في الأعمال الشكسبيرية التي درّسها لطلابه.

ستيفن سبيلبيرغ... بوق صهيوني

ليس خافياً على أحد أن ستيفن سبيلبيرغ من أبرز داعمي إسرائيل في هوليوود. فقد سبق للسينمائي الأميركي الشهير أن قال علناً إنه مستعد «للموت» من أجلها، فيما تبرعت مؤسّسة تابعة له بمبلغ مليون دولار أميركي للكيان الصهيوني في عدوان تموز 2006 على لبنان، من أجل «إغاثة النازحين الإسرائيليّين» من شمال فلسطين المحتلة. واليوم، يظهر صاحب فيلم «قائمة شندلر» (1993) كأنّه في حالة هذيان أو إنكار للواقع. في وقت تكشّف فيه حجم الكذب والتضليل الذي تتعمده آلة البروباغندا الإسرائيلية والغربية، يصر ستيفن على إحراج نفسه أمام الرأي العام محاولاً إظهار الإسرائيليين في هيئة الضحية وتلميع جرائهم.

آخر «مآثر» سبيلبيرغ كُشفت في بيان شاركته مؤسسة USC Shoah Foundation  التي أسسها سبيلبيرغ في عام 1994، قال فيه إنه بدأ العمل على مشروع شريط «يوثق للجرائم الهمجية التي ارتكبتها حماس في 7 تشرين الأول بحق اليهود». وتابع المخرج الحائز جائزة أوسكار: «لم أتخيل أبداً أنني سأشهد مثل هذه الهمجية التي لا توصف ضد اليهود في حياتي». جاء البيان في الوقت الذي تواصل فيه المؤسسة مبادرتها لجمع شهادات من «الناجين الإسرائيليين» من العدوان الصهيوني على غزّة و«الناجين من المحرقة» الذين يقدّمون شهادات. ولفت إلى أن فريق USC Shoah Foundation «يقود الجهود التي تضمن أن تكون أصوات الناجين بمثابة أداة قوية لمواجهة الارتفاع الخطير لأصوات معاداة السامية والكراهية».

في السياق نفسه، أشار المخرج البالغ 76 عاماً في مقابلة مع شبكة «فوكس» الأميركية إلى روايات ومزاعم روجت لها آلة البروباغندا الإسرائيلية والغربية حول «حالات اغتصاب للأطفال والنساء اليهوديات التي لا يمكن لعقل تخيلها». وأضاف أن معاداة السامية «انحسرت بعد هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية، لكننا نشهد صعودها مجدداً، وخصوصاً في الولايات المتحدة». وفي سياق التحضير للمشروع، أكد أن فريقه جمع حتى الآن «130 شهادة».

ــــــــــــــــــــــــــــــ

«الأخبار» اللبنانية – 14 كانون الأول 2023

عرض مقالات: