اخر الاخبار

استحوذت مسألة الطائفية التي تشكل ركيزة النظام السياسي اللبناني على أبحاث وقراءات مختلفة لتبيان أسباب هذا الارتباط البنيوي بينها وبين النظام. كان مهدي عامل أحد أبرز المفكّرين الذين تصدوا لبحث العلاقة الملتبسة بين الطائفة والدولة. ليست الطوائف طوائف إلا بالدولة لا بذاتها، والدولة في لبنان هي التي تؤمن ديمومة الحركة في إعادة إنتاج الطوائف كيانات سياسية هي بالدولة وحدها مؤسسات. هذا ما توصل اليه وبتعبيره في معرض نقده منظري الفكر الطائفي وحتى الاختلاف مع باحثين ماركسيين عالجوا الطائفية وتشكلها.

استند الفكر الطائفي إلى تعدد الطوائف التي يتكون منها المجتمع في دفاعه عن طائفية النظام باعتبار الطوائف وحدات إجتماعية قائمة بذاتها ومبتدعاً مفهوم الفرادة، أي أن النظام فريد في حماية هذا التنوع وإعطاء الطوائف حق الفيتو لتأمين المشاركة. رفضه لهذا المنطق جاء من أن عدداً كبيراً من دول العالم يتكون من جماعات دينية واثنية مختلفة بل وأكثر من لبنان كما بيّن التناقض بين المشاركة وحق الفيتو أو ما اصطلح على تسميته التناقض المأزقي، أي مبدأ تحرك وتعطل النظام. هذا المأزق يجد جذوره في الظروف التاريخية التي رافقت تكون الرأسمالية في لبنان كرأسمالية تابعة وهذا الجانب الاقتصادي الغائب عمّن درسوا تاريخ الطائفية في لبنان، اذ اعتبروا تاريخ وضع الدستور في عام 1926 تاريخاً لتشكّل النظام السياسي فيما تاريخ دخول العلاقات الرأسمالية كان في عام 1860. ولم يسلم من نقده حتى الماركسيون الذين عالجوا المسألة معتبرين أن سبب بقاء الطائفية مع دخول الرأسمالية، رغم أنها علاقة سابقة عليها، هو التكيف والانتقال السلمي من الإقطاع إلى الرأسمالية دون صراع عنيف خاضته البرجوازية، لتخلص من العلاقات السابقة على الرأسمالية فيما كان تفسيره في تفاوت التطوّر بين الرأسمالية في المركز والرأسمالية التابعة أو ما اصطلح على تسميته نمط الإنتاج الكولونيالي. أما الأساس السياسي فيكمن في مصلحة البرجوازية في بقاء الطائفية وضرورتها الملحة في مواجهة أي سيرورة ثورية وأن يأخذ الصراع الطبقي مجرى طائفياً ضمن أطر النظام الطائفي نفسه.

فالطائفة وفق مفهوم مهدي عامل علاقة سياسية محددة بنظام سياسي محدد وليست كياناً قائماً بذاته، وأكثر ما يحجب هذا التحديد ويجعل الطائفة تظهر وكأنها وحدة مستقلة بذاتها المزج بين الديني والسياسي في تحديد الطائفي، وهو ما يستخدمه الفكر الطائفي كذريعة لتأبيد النظام بحجة الحفاظ على التعدد والتنوّع الديني. وهذا ما يؤدي إلى جعل الدين في علاقة تبعية مع الدولة، فيما العكس أن الدولة الوطنية الديمقراطية وحدها تصون ذلك التنوع وحرية الوجود الطائفي وتضع حداً فاصلاً بين الديني والسياسي. وليس هذا التداخل الحاصل بين الديني والسياسي إلا تجسيد لايديولوجيا الطبقة المسيطرة ومصلحتها في إبقاء هذه العلاقة الملتبسة وتنميط ذلك في الوعي، بحيث تصبح حقوق الطائفة مقدسة لاتباعها نتيجة الالتباس الحاصل.

فالتعرف على الطائفية يكون من خلال القاعدة المادية للبنية الاجتماعية القائمة التي، بحسب مهدي عامل، علاقات الانتاج الكولونيالية الخاصة بالبنية الاجتماعية اللبنانية. هذه الخلاصة أتت في معرض مناقشة نصوص المؤرخ مسعود ضاهر حول المسألة الطائفية فيما كان كثير من الباحثين والمفكرين الماركسيين يتساءلون عن سبب بقاء الطائفية كشكل خاص بعلاقات ما قبل الرأسمالية بينما أصبح لبنان داخل نمط الانتاج الرأسمالي. صحيح أن هؤلاء الباحثين نظروا في الطائفية كشكل ماضوي من الحاضر ولكن بالتماثل مع نمط الانتاج الرأسمالي فيما آليات نمط الانتاج الكولونيالي هي المجدّدة، والمعوقة للتطور التاريخي من الإقطاع إلى الرأسمالية.

لطالما كانت الطائفية إحدى الإشكاليات الأساسية في النظام السياسي اللبناني صاعق تفجير للأزمات تحجب الصراع الفعلي وتؤمن ديمومة سيطرة التحالف الطائفي واستمرار سيطرته وتجديد هيمنته بشكل يخفي المأزق الفعلي للنظام والطبقة المسيطرة. هذا ما حدث في اتفاق الطائف بعد الحرب ولو بتوازن هيمني مختلف إنما ببقاء الطبقة المسيطرة وامتيازاتها، وكذلك الأمر عام 2005 بعد انسحاب الجيش السوري وبدء صراع راح يأخذ طابعاً مذهبياً بتداخل داخلي خارجي، ,كادت أن تشتعل حرب جديدة. وما لبث ذلك التحالف الطائفي أن عاد إلى النظام وآلياته وبدعة التوافق أو الديمقراطية التوافقية. ذلك التناقض المأزقي ولعبة شراء الوقت والاستدانة المفرطة وخداع الناس خاصة على مستوى الوضع الاقتصادي وبيع الأوهام وضعت هذا النظام على رصيف الإفلاس على كل المستويات وليس المالي، فقط فانفجرت حالة شعبية عارمة عرفت بانتفاضة 17 تشرين شكلت تهديداً فعلياً ولأول مرة للنظام. وبمعزل عن المسار المخاض والمستمر إلى الآن والاختلاف السياسي والايديولوجي في عوامل الأزمة والحلول الممكنة فانها اخترقت كل الحواجز والحدود الطائفية ومنحت بعضاً من الأمل.

حتى مع الانهيار والدولة تنازع لم تنفك الطوائف تتصارع على الأشلاء في رهان إعادة إنتاج نفسها ضامنة ومكرّسة وجودها الفعلي الذي في النظام والدولة يتحدد كوحدات اجتماعية قائمة بذاتها. هناك قراءات متعددة ومختلفة لأسباب تعثر الانتفاضة، لعل أبرزها تأثيراث الايديولوجيا الطائفية المتجذرة في الوعي العام بفعل ممارسات الطبقة المسيطرة والخوف المتبادل من هيمنة طائفة ما كنمط سائد لدى الناس فيما الهيمنة داخل التحالف المهيمن لم تفارقه منذ التشكل وإن تبدلت في إطار وحدة الدولة الطائفية، وهو ليس سوى عامل ثانوي وليس أساسياً لواقع الطبقات الشعبية، ليحضر سؤال مهدي عامل: ما الذي يجعل الجماهير تخوض معارك لا تمثل مصلحتها...؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

«النداء» اللبنانية – 6 أيار 2021

عرض مقالات: