اخر الاخبار

أن نعود، هذه الأيام، لنقرأ كتاب “غزة.. حافظوا على إنسانيتكم”، للصحافي والناشط الإيطالي الأممي فيتوريو أريغوني (1975 - 2011)، والذي صدرت ترجمته عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” عام 2012 (أنجزها مالك ونّوس)، ففي هذا ضرب من التسلّح بالقِيم النضالية العليا أمام الهجمة الصهيونية البربرية المستمرة منذ أكثر من شهر، وتذكير بأن القضية الفلسطينية تمثيل حي لخبرات الكفاح الوطني، وإلا ما الذي يفسر وقوف ثلاثة بلدان لاتينية، اليوم، بشكل واضح مع الحق الفلسطيني، وقد قررت بالفعل أن تحافظ على إنسانيّتها، فسحبت سفراءها من الكيان، في ظل تخاذل العرب، بل مشاركة بعضهم في الحصار، وإصرار آخرين منهم على المضي قدماً في نهج التطبيع؟

عمَل أريغوني، منذ 2008، مع “حركة التضامن العالمية الداعمة للشعب الفلسطيني” (ISM)، حتى اغتياله فوق أرض غزة عام 2011 على يد مجموعة سلفية متشددة مشبوهة. ومن خلال مدونته “إذاعة حرب العصابات” (Guerrilla Radio)  وصحيفة “إل مانيفيستو”، قدم هذه اليوميات التي يعرض فيها معايشته لحرب 2008 - 2009 التي استمرت ثلاثة أسابيع، وصدرت في كتاب بالإيطالية، قبل ترجمتها إلى عدد من اللغات، بتصدير المؤرخ إيلان بابيه.

“عندما تُلغى الأعلام والحدود وخطوط العرض والفروقات الدينية والعرقية، فإن ما يظهر في سيناريو الحياة هو سيناريو التجرد... عملي دعوة، لنا جميعاً، كي نتذكر انتماءنا إلى جماعة فريدة من الكائنات الحية، ألا وهي العائلة الإنسانية”. بهذه الكلمات المأخوذة من الصفحة الأُولى، نفهم أيّ دعوة نضالية تحرك وفقها الصحافي الراحل. ويتابع: “هذه الأوراق ملطخة بالدماء، كما أنها مشبعة بالفوسفور الأبيض”، ويلفت إلى أنه تعرض بسبب كتاباته إلى تهديدات من نازيين جدد مرتبطين بمجموعات استيطانية.

“غيرنيكا في غزة”، هو عنوان التدوينة الأولى التي خطها أريغوني في 27 كانون الأول 2008، نقرأ ونقارن ما ورد فيها بما يجري اليوم، لا شيء اختلف في الجوهر، سوى فداحة التوحش وعدد الشهداء. يكتب: “وصل عدد الضحايا إلى 210، لكن الرقم يتجه صوب الازدياد بشكل دراماتيكي... بلغني أن وسائل الإعلام الغربية تمالئ إسرائيل، فتكرر البيانات التي يصدرها الجيش الإسرائيلي بشكل ببغاوي”. يتحدث عن حالة “مستشفى الشفاء”، وذهابه إليه مع المتطوعين ليتبرع بالدم للجرحى، وعن قصف “أكاديمية الشرطة” في دير البلح، يتأمل: “لم أر أي ‘إرهابي بين المصابين، ليس هناك سوى المدنيّين”، وعن سارة التي قُتلت في مخيم جباليا بعدما خرجت لتشتري الخبز لعائلتها. أيّ تفصيل من المكتوب هنا يختلف عن واقع العدوان القائم على غزة الآن؟ سوى أن المخابز أُضيفت إلى “بنك أهداف الإجرام”، وأن عائلات بأكملها، لا أفراد منها، أبيدت من السجلات. نقرأ تلك اليوميات ولا يسعنا إلا أن نردد مع صاحبها: “حافظوا على إنسانيتكم”.

“الموت ببطء أثناء إصغاء السمع دون جدوى”، التدوينة الثانية، أمام “مستشفى الشفاء”، جسد يتلمس حواسَّه مع دويّ المقاتلات الحربية، والدمع المنهمر من كل عين حزناً على قتل الأحبة. كما ترد عبارة “ليس في القطاع مكان آمن”، العبارة التي نسمعها اليوم على ألسنة المراسلين الصحافيين. “لم أنم منذ 60 ساعة، ويمكن قول الشيء نفسه عن الغزيّين”. الشهداء بلغ عددهم 320، والنساء يبحثن في المشارح عن أزواجهن وأبنائهن، بعد ساعات اهتدت امرأة إلى وجه تعرفت إليه من يده. (ماذا يقول المشهد أمامنا، الآن: “هاي أمي بعرفها من شعرها”). ويختتم التدوينة بالحديث عن توجه سفينة إغاثة تابعة لحركة “غزة الحرة” من لارنكا في قبرص، لمحاولة وضع حد للإبادة الجماعية، وإيماناً بـ”حافظوا على إنسانيتكم”.

“مصانع الملائكة”، تدوينة اليوم قبل الأخير من عام 2008، شهادة على قصف المدارس والمشافي والمساجد، من المفترض أن تصل السفينة محملة بطاقم طبي وثلاثة أطنان من الأدوية، لكن 11 زورقاً حربياً إسرائيلياً اعترضت طريقها، صدمتها بنية إغراقها، فجنحت السفينة بمن فيها إلى ميناء صور اللبنانية... أما العالم “المتحضر” فما زال صامتاً. قنبلة واحدة قتلت خمسة وخمسين طفلاً، جثث مبتورة ومقطوعة الأطراف.

وفي صباح اليوم الأول من عام 2009 يكتب “الكارثة غير طبيعية”، حيث يتحدث عن قتل “إسرائيل” الطبيب إيهاب المدهون والممرض محمد أبو حصيرة. وفي اليوم الثالث من العام الجديد يخط تدوينته “أرواح تطالب بالعدالة”، يروي مَشاهد من الاجتياح البري، عن الخروج من مأساة العيش تحت الحصار إلى العيش تحت الكارثة. نتابع وصفه لإصراره ومن معه في الحركة على البقاء في غزة وعدم الخروج منها كأجانب، “لقد وصل عدد الشهداء، حتى هذه اللحظة، إلى 445... حافظوا على إنسانيتكم”.

يقترب أريغوني في سرده من الناس، يفصّل حال جدّ وابنته يسعيان في إسعاف الحفيد إلى المستشفى مستعينين بعربة يجرها بغل، وعن أبي محمد الذي ظل يحدّثه عن أبطاله الشيوعيين: أحمد سعدات وأبو علي مصطفى وجورج حبش، وعن عرفة عبد الدائم الذي يعنون إحدى تدويناته باسمه، وهو رجل عمره 35 عاماً، استشهد بقذيفة دبابة أثناء إسعافه أحد الجرحى، كما يكتب عن نساء حوامل وضعن قبل الأوان، ويتساءل: “أيّ نوع من البالغين سيكون أولئك المواليد؟”، ويمكن أن نجيب بأن بعضهم يشهد اليوم العدوان القائم؛ فمنهم من قضى وآخرون متمسكون بأمل مقاوم. ويتحدث أيضاً عن راهبة كاثوليكية قضت آخر عشرين عاماً من حياتها في غزة، وحين أجلتها السفارة الإيطالية، مرر القنصل دعوة مشابهة لأريغوني “كي يهرب من هذا الجحيم”، لكنه اعتذر؛ حفاظاً منه على إنسانيته.

“أنا لن أغادر وطني”، تدوينة اليوم الثامن من السنة الجديدة، يتحدث فيها عن الأنفاق بوصفها شريان حياة القطاع المحاصر، حتى الأبقار والمواد الغذائية التي تملأ المحلات تعبر من خلالها، وفي الوقت الذي ُحصي فيه السلع والمواد التي توفرها الأنفاق، يصل عدد الشهداء إلى 768... “للإسرائيليين حق بالضحك والغناء حتى وهم يرتكبون أفظع المجازر”. ويخصّص تدوينة اليوم التالي، “قتل أبقراط”، للكوادر الطبية والمأساة الإنسانية التي تشهد عليها، وهي جزء منها. كما تحضر جغرافيا غزة وأمكنتها بقوة في مدونة الصحافي الإيطالي، من مخيم جباليا شمالاً إلى رفح جنوباً.

ولا ينسى أن يلتقط ملاحظة سياسية لافتة عن انتهازيّين يترصدون سقوط غزة ليتربعوا على عرشها ولو من رماد... لا؛ لم يتغير المشهد كثيراً. وفي حديثه أيضاً، يعرّج على التهديدات التي كان يبثها موقع إلكتروني أميركي، يضع صورته كمطلوب ومتعاون مع “حماس”! في المقلب الآخر، لا يوفر أريغوني في ملاحظاته المشهد السياسي ببلده إيطاليا، الذي يقوده تحالف يجمع ما بعد الفاشيين وما بعد الاشتراكيّين، وكلاهما يصم آذانه عن أي مذبحة ترتكب في فلسطين.

يوميات ويوميات خطها الناشط الأممي عن الحياة تحت وابل النيران، نستذكرها، اليوم، بعد أربعة عشر عاماً، والمحرقة الصهيونية ما تزال تستعر بلا رادع. “الأحياء والأموات” و”هدنات الدم”، و”ما الذي رأته دموعها” عناوين تدويناته التي تناول فيها الأيام الأخيرة من العدوان. في مشهد ذي دلالة، يصلح أن يكون قفلة في فيلم سينمائي، يصف أريغوني التقاط الأطفال لمناشير ألقتها مقاتلات حربية صهيونية بعد نهاية العدوان، مفادها تحذير بأن ما شهدوه لا يعتبر شيئاً أمام ما سيلقونه في قادم الأيام، يمسك الأطفال هذه المناشير ويطوونها على هيئة طائرات ورقية صغيرة، ثم يعيدونها إلى الاتجاه الذي أتت منه.

لا ينتهي الكتاب مع نهاية الحرب، التي راح ضحيتها أكثر من 1400 شهيد، بل يحتوي على ثلاث تدوينات لاحقة كتبت في صيف 2009، وهي: “استمرار بؤرة الكارثة”، و”جرائم حرب في غزة”، و”فليجيئوا إلى غزة”، وهي لا تقل أهمية عما رصده في يوميات الحرب المباشرة، بل تكملها وتوثق لانتهاكات في القانون الدولي، وأثر استخدام الأسلحة المحرمة دولياً على الحياة اليومية. كما تقرأ هذه التدوينات المشهد السياسي داخل الكيان نفسه، بعيد الحرب، وكيف مهد هذا الفصل الدموي الطريق في انتخابات شباط 2009 لرجل “استغنى عن رجليه بجنازير دبابة وعن رأسه ببرج حربي”، بتعبير أريغوني، هو سيء الذكر رئيس حكومة الكيان وكبير مجرمي الحرب الحالية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“العربي الجديد” – 14 تشرين الثاني 2023

عرض مقالات: