اخر الاخبار

الصراع ليس جديدا فقد بدأ قبل أكثر من قرن ونصف من الزمان وأصبح حادا مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، وهو جزء من مجموعة كبيرة من المشاكل التي خلفتها القوى الإمبريالية الغربية (بريطانيا وفرنسا) للمنطقة من خلال الطريقة التي قامت بها بتفكيك وتقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية، ولا نزال نشاهد مكونات أخرى لهذا الإرث المعقد في العراق ولبنان وفي جميع أنحاء المنطقة. ظهر هذا الصراع على وجه التحديد بين المشروع الصهيوني لاستعمار فلسطين وسكان البلاد الاصليين من عرب فلسطين، وأصبح عام 1948 صراعا بين إسرائيل (الدولة الاستيطانية نتيجة المشروع الاستعماري الصهيوني) والشعب الفلسطيني.

إن القول إن الصهيونية هي مشروع استعماري، وأن إسرائيل دولة استيطانية، لا علاقة له بأحكام عشوائية تقييمية ذاتية ولكنه بيان مفهوم للحقيقة، ولا نستخدم هذه المصطلحات هنا كإهانة، فان الحركة الصهيونية نفسها استخدمت مصطلح “الاستعمار” في خطابها.

ربما يقول البعض، إن الاستعمار وإقامة دولة استيطانية أمران مقبولان أخلاقيا، بشكل عام أو في هذه الحالة الخاصة بالذات، وهذا حكم تقييمي ذاتي ينشأ من المعايير الأخلاقية الخاصة بالفرد. ومع ذلك، ليس من المبرر فكريا بأي حال من الأحوال إنكار حقيقة أن الصهيونية هي مشروع استعماري وأن دولة إسرائيل هي دولة استيطانية.

وبالطبع هناك عدد من الدول الاستيطانية التي أنشأها المستعمرون الأوروبيون في مناطق مختلفة من العالم، وإسرائيل ليست فريدة من نوعها في هذا الصدد، مع ذلك، فإن الصهيونية وإسرائيل استثنائيتان من عدة جوانب، وفيما يلي سنتناول ميزات خاصة بذلك:

الميزة الأولى للاستعمار الصهيوني هي أنه يمثل تاريخيا آخر مشروع استعماري يتم تحقيقه، وهو الأخير والوحيد النشط حاليا - نشط كما هو الحال في “البركان النشط” على عكس البركان الخامد.

فقد حققت دول الاستيطان الأخرى “مصيرها الواضح” (كان “المصير الواضح” Manifest Destiny هو المبدأ الذي اعتمد عليه توسع الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر)، وهناك اكتملت عملية الاستعمار، أما في حالتنا فلم تكتمل لحد الآن ولاتزال مستمرة، فإسرائيل اليوم ليست نتاجاً للمشروع الاستعماري الصهيوني فحسب، بل هي أيضا أداة لتوسعه لاحقا. واستمرت هذه السياسة بالرغم من توقيع اتفاقيات أوسلو، وبالقاء نظرة على عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية من عام 1967 وحتى اليوم يمكننا أن نرى بأنفسنا الاستعمار - الذي خططته ونفذته وتموله الحكومة الإسرائيلية وتقوم بتأمينه وحمايته بواسطة جيشها.

الميزة الثانية للاستعمار الصهيوني هي أن المستوطنين ليسوا من مواطني الدولة الأوروبية المستعمرة التي أرسلتهم في حملتها الاستعمارية ووفرت لهم الحماية. ولهذا السبب كان من الواضح لمؤسسي الصهيونية السياسية منذ البداية أنهم بحاجة إلى دعم القوى الكبرى وهذا أمر حيوي لنجاح مشروعهم - بغض النظر عن القوة الكبرى التي كانت تسيطر على الشرق الأوسط، كان الهدف هو التستر خلفها وتوفير “جدار حديدي” يمكن أن يستمر من خلفه الاستعمار الصهيوني. وبدون هذا الدعم، الذي كان يشار إليه باسم “الميثاق” في الخطاب الصهيوني المبكر، لكان الفشل هو مصير استعمار فلسطين منذ البداية.

وبطبيعة الحال، فإن القوى العظمى “الحامية” ليست فاعلة خير، فحمايتها ليست مجانية، فيجب تقديم خدمات أخرى بالمقابل. ومنذ البداية كان من الواضح نوع هذه الخدمات، فكتب الأب المؤسس للصهيونية السياسية، تيودور هرتزل (1860 إلى 1904) في كتابه البرنامجي “الدولة اليهودية” عام 1896:

بالنسبة لأوروبا، سنشكل جزءا من الجدار ضد آسيا، وسنقدم الخدمة الثقافية الأمامية ضد الهمجية. وباعتبارنا دولة محايدة، سنبقى مرتبطين بأوروبا بأكملها، والتي يجب عليها أن تضمن وجودنا. وهذا ليس “صدام حضارات” بقدر ما هو اصطدام بين الحضارة الوحيدة والهمجية.

ولكن أوضاع العالم تغيرت وجاءت الفترة من 1948 إلى 1967 كفترة صعبة بالنسبة لطموح إسرائيل في خدمة الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة والإمبريالية الجديدة الصاعدة، ومن جانبها كانت الولايات المتحدة مهتمة بالتأكيد، لكنها لم تكن متحمسة للغاية، فقدموا لإسرائيل دعما ماليا وسياسيا كبيرا، لكن التزامهم تجاه إسرائيل لم يكن مطلقًا بأي حال من الأحوال. فلم تثبت فائدة إسرائيل كتابع إقليمي حينها بعد. وفي الخمسينيات من القرن الماضي، توجهت إسرائيل بشكل متزايد نحو فرنسا من أجل تحالف سياسي أوثق ومعدات عسكرية. وكانت فرنسا آنذاك تشن حربها الاستعمارية في الجزائر وكانت القومية العربية ـ التي يتزعمها الرئيس المصري جمال عبد الناصرـ هي العدو المشترك.

وقامت حرب السويس عام 1956 وأظهرت إسرائيل براعتها العسكرية وفائدتها باعتبارها كلب الحراسة المحلي الشرس - ولكن اتضح لها انها تعمل للزعيم الإمبريالي الخطأ، فقد انتهى زمن سيطرة فرنسا وبريطانيا العظمى كقوى استعمارية، ولم تكن الولايات المتحدة متحمسة للغاية بشأن محاولة إسرائيل الظهور بشكل فاضح غير مسموح به، فطُلبت من إسرائيل بوضوح الانسحاب من المناطق المحتلة، التي أعلن رئيس الوزراء بن غوريون على عجل إلى حد ما أنها “جزء من مملكة إسرائيل الثالثة”، ومع ذلك، فقد استفادت إسرائيل بشكل كبير من هذا الوضع، فتمكن بن غوريون ودايان وبيرز، في المنتجع السري في سيفر، اثناء وضع خطة التعاون في الهجوم على السويس، من التفاوض مع فرنسا والحصول على ثمن الدور الرئيسي الذي لعبته إسرائيل في بدء الحرب: كان الثمن هو وعد فرنسا لإسرائيل ببناء مفاعل نووي وتزويده بالمواد الانشطارية. وهذا ما جعل إسرائيل في نهاية المطاف خامس أكبر قوة نووية في العالم. وفي عام 1967، حصلت إسرائيل لأول مرة على موافقة الولايات المتحدة قبل مهاجمة مصر وسوريا. كما استغلت الفرصة لضم الجزء المتبقي من فلسطين الذي استولى عليه الملك عبد الله الاول بموجب اتفاق سري مع حكومة بن غوريون عام 1948.

لقد قدمت إسرائيل العديد من الخدمات المهمة للغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية؛ ولكن الأمر الأكثر قيمة كان مساهمتها في مكافحة وقمع الحركات القومية واليسارية العربية العلمانية، التي ينظر إليها الغرب باعتبارها تهديدا مباشرا لمصالحه، والتي لم تتعاف قط من اثار الهزيمة العسكرية التي لحقت بها في عام 1967، وهكذا أصبحت إسرائيل الحليف الأكثر ولاء وموثوقية للولايات المتحدة والمنفذ لمصالحها في المنطقة.

ولنتذكرهنا رؤية كارل ماركس الأساسية: إن مفتاح فهم المجتمع يكمن في الاقتصاد السياسي، وتعميق هذه الفكرة من قبل لينين في مؤلفه: الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، حيث يقول “ولأول مرة بدا العالم مقتسما بشكل لا يمكن معه في المستقبل إلا إعادة التقاسم، أي انتقال الأراضي من «مالك» لآخر، لا إنتقالها من حالة أراض لا مالك لها إلى ذات “مالك”. ويستمر لينين فيقول في كتابه: “يطمح الرأسمال المالي بوجه عام إلى الاستيلاء على أكثر ما يمكن من الأراضي مهما كانت وحيثما كانت وبأية وسيلة كانت، آخذة بعين الإعتبار مصادر الخامات المحتملة وخوفا من التأخر في الصراع المسعور من أجل قطعة من العالم غير المقتسم أو من أجل إعادة تقاسم القطع التي تم تقسيمها.”

ان الشيء الجديد في الصراع العربي الفلسطيني وإسرائيل هو اكتشاف حقل “غزة مارين” العملاق للغاز والواقع قبالة شواطئ قطاع غزة، على البحر المتوسط، والذي ينتظر الاستغلال، بعد 23 عاما على اكتشافه.

ففي عام 1999، منحت السلطة الفلسطينية رخصة للتنقيب عن الغاز الطبيعي قبالة السواحل الفلسطينية في قطاع غزة لمجموعة بي جي (British Gas)، وشركائها شركة اتحاد المقاولين (CCC). وتجددت المحادثات كجزء من العملية السياسية والأمنية التي بدأت مؤخرا بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بوساطة أمريكية. وذكرت التقارير أن مسألة تطوير حقل “غزة مارين” وإعداده لاستخراج الغاز، كانت في صلب المحادثات التي أجريت في اجتماعي العقبة وشرم الشيخ، اللذين جمعا مسؤولين أمنيين وسياسيين من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، برعاية الولايات المتحدة، وبمشاركة أردنية ومصرية، وأن قرار بدء استخراج الغاز “يخضع لموافقة إسرائيلية” وبالتالي “لا تستطيع السلطة الفلسطينية القيام بذلك بمفردها”.

وبعد الحرب الروسية الأوكرانية التي سببت شحة توريد الغاز إلى اوربا اصبحت مصادر الغاز مهمة لأوربا، وتنتج إسرائيل الغاز الطبيعي في شرق المتوسط منذ سنوات وتقوم بتصدير بعض الغاز إلى جيرانها، وتسعى لتوجيه المزيد من الشحنات نحو أوروبا، التي هي بأمس الحاجة للوقود، الأمر الذي يشكل السبب وراء الدعم الغربي الكبير لتل أبيب. أن اكتشافات النفط والغاز الطبيعي في حوض الشام، البالغة 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، هو أحد دوافع الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة للسيطرة على الثروة أو اخذ حصة منها بمنطق القوة. وتتركز الاستراتيجية الأمريكية على ضمان حرية تدفق الطاقة وعلى أمن إسرائيل كحليف وذراع لتحقيق سياستها في استعمار المنطقة وستقوم بحمايتها بالاستخدام المباشر للقوة العسكرية، وحتى لو كلف ذلك قتل الاطفال وانتهاك القوانين الدولية.

عرض مقالات: