اخر الاخبار

لو أنك اقترحت في العام ١٩٤٥ أو ١٩٥٠ أيّاً من الأفكار والسياسات التي تشكل اليوم عدة شغل النيولييربالية القياسية، لطُردت من المسرح ترافقك الضحكات الساخرة أو أرسلت إلى مستشفى للمجانين. في ذلك الوقت كان الجميع كينزيّاً (نسبة الى العالم الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز – 1883-1946)، على الأقل في البلدان الغربية، أو اشتراكيا ديموقراطيا أو مسيحيا ديموقراطيا اجتماعيا أو منتميا إلى منوع أو آخر من منوّعات الماركسية. إن فكرة السماح للسوق بأن يتخذ القرارات الاجتماعية والسياسية الكبرى، والفكرة القائلة بأنه يجب أن تتخلى الدولة طوعا عن دورها في الاقتصاد، وأنه ينبغي إطلاق الحرية الكاملة لكبريات الشركات، وأنه يجب قمع النقابات وتقليص الحماية الاجتماعية للمواطنين بدلاً من زيادتها — كانت مثل هذا الأفكار أجنبية عن روح العصر. وحتى لو وافق أحدهم على تلك الأفكار، فقد يتردد، أو تتردد، في اتخاذ مثل ذلك الموقف علنا وكان سيصعب عليه كثيرا العثور على جمهور.

ومهما يكن ذلك مستبعد التصديق في أيامنا هذه، خصوصا لدى الجمهور الشاب، كانت النظرة إلى «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» أنهما مؤسستان تقدميتان. كانا يسميان «توأمي كينز» ولدا من جون ماينارد كينز وهاري دكستر وايت، والأخير أبرز مستشاري فرانكلين روزفلت. وعندما نشأت المؤسستان في أعقاب «بريتون وودز» (مؤتمر النقد الدولي الذي انعقد في غابات بريتون في الولايات المتحدة عام ١٩٤٤)، كانت مهمتهما المساعدة على الحيلولة دون نشوب نزاعات مقبلة بتقديم القروض لإعادة الإعمار والتنمية ومن أجل حل المشكلات المؤقتة التي تطرأ على ميزان المدفوعات. لم يكن لهما التحكم في القرارات الاقتصادية للحكومات الفردية ولا كانت مهمتهما تتضمن الإذن بالتدخل في السياسة الوطنية.

انطلقت «دولة الرعاية» و«العقد الجديد» في الأمم الغربية في الثلاثينيات من القرن الماضي، إلا أن الحرب أوقفت انتشارها، فكان أول بند على جدول الأعمال بعد الحرب هو إعادة الاعتبار لها. أما البنود الأخرى الكبرى على جدول الأعمال فكانت تحريك التجارة العالمية – وقد تحقق ذلك من خلال «مشروع مارشال» الذي حوّل أوروبا مجددا إلى الشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة الأميركية، صاحبة أقوى اقتصاد في العالم. وفي ذلك الوقت، هبّت رياح النضال ضد الاستعمار، ونالت شعوب الحرية أكان على شكل تنازل كما في الهند، أم من خلال الكفاح المسلح كما في كينيا وفيتنام وسائر الأمم.

على العموم، كان العالم قد شرع في تنفيذ جدول أعمال تقدمي جدا. نشر الباحث الكبير كارل پولانيي رائعته «التحول الكبير» في العام ١٩٤٤، وهو نقد عنيف لمجتمع القرن التاسع عشر الصناعي المسير بواسطة السوق. منذ خمسين عاما، تنبأ پولانيي بهذا القول الاستشرافي والحديث: «إن السماح لآلية السوق بأن تكون المسيّر الأوحد لمصير البشر وبيئتهم الطبيعية… سوف يؤدي إلى تدمير المجتمع» (ص ٧٣). وعلى الرغم من ذلك، كان پولانيي مقتنعا بأن مثل هذا التدمير لن يحدث في عالم ما بعد الحرب لأننا «نشهد داخل الأمم تطورا بطُل فيه تحكم النظام الاقتصادي في المجتمع وتأمنت أسبقية المجتمع على ذاك النظام»، على ما قال (ص ٢٥١).

مع الأسف، إن تفاؤل پولانيي لم يكن في محله – فكل فكرة النيوليبرالية تقوم على تمكين آلية السوق من أن تتحكم بمصير البشر. يجب على الاقتصاد أن يملي قوانينه على المجتمع، وليس العكس. وتماما كما استشرف پولانيي، فهذه العقيدة تقودنا مباشرة نحو «تدمير المجتمع».

فما الذي جرى؟ كيف وصلنا إلى تلك الحالة بعد نصف قرن من نهاية الحرب العالمية الثانية؟ والجواب الموجز هو «بسبب جملة من الأزمات المالية الحديثة في آسيا». لكن هذا يتفادى السؤال – فالسؤال المطروح هو «لماذا نشأت النيوليبرالية من معزلها الأقلوي جدا لتصير العقيدة الطاغية في عالم اليوم؟ لماذا يستطيع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التدخّل كيفما شاءا لإجبار البلدان على المساهمة في الاقتصاد العالمي في شروط غير مناسبة؟ لماذا دولة الرعاية مهددة في جميع البلدان التي طُبّقت فيها؟ ولماذا تقف البيئة على حافة الانهيار ولماذا يوجد هذا العدد من الفقراء، في البلدان الغنية كما الفقيرة، في وقت لم توجد فيه ثروات ضخمة أبدا كمثل الثروات الموجودة الآن؟ تلك هي الأسئلة التي يتعين الإجابة عنها من منظار تاريخي.

وكما حاججتُ في الفصلية الأميركية «ديسنت» Dissent (الانشقاق)، فأحد التفسيرات لانتصار النيوليبرالية وللكوارث الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الملازمة لها هو أن النيوليبراليين قد اشتروا نسختهم الخاصة المؤذية والرجعية من «تحوّلهم الكبير» ودفعوا ثمنها. فقد أدركوا ما لم يدركه التقدميون، أن للأفكار مترتبات. ابتداء من نواة في جامعة شيكاغو مع الفيلسوف - الاقتصادي وفي مركزها فريدريش فون هايك وتلامذته أمثال ميلتون فريدمان، نسج النيوليبراليون وممولوهم شبكة ضخمة من المؤسسات والمعاهد ومراكز الأبحاث والمنشورات والباحثين والكتّاب وخبراء العلاقات العامة الدوليين من أجل بلورة وتعليب أفكارهم وعقيدتهم ونشرها بلا هوادة.

لقد أنشأوا هذا الإطار الأيديولوجي بالغ الفاعلية لأنهم أدركوا ما كان يعنيه المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي عندما طوّر مفهوم الهيمنة الثقافية. فإذا كنت تستطيع احتلال أدمغة البشر فسوف تتبعها قلوبهم والأيادي. لست أملك الوقت الكافي لإعطائكم أدلة هنا ولكن صدقوني: إن العمل الأيديولوجي والدعوي الذي قام به اليمين كان رائعا بالمطلق. أنفقوا مئات الملايين من الدولارات لكن النتيجة كانت تساوي كل قرش أنفقوه لأنهم جعلوا النيوليبرالية تبدو وكأنها شرط طبيعي وعادي من شروط البشرية. ومهما يكن عدد الكوارث المتنوعة التي أتى بها النظام النيوليبرالي على نحو مؤكد، ومهما تكن الأزمات المالية التي قد تكون نتجت عنه، ومهما يكن عدد الخاسرين والمنبوذين الذين خلقهم، بدا كل هذا وكأنه حتمي مثله مثل فعل من أفعال الرب، على اعتباره النظام الاقتصادي والاجتماعي الممكن الوحيد المتاح لنا.

دعوني أشدد على أهمية أن ندرك أن هذه التجربة النيوليبرالية الواسعة التي نحن ملزمون بالعيش في ظلها قد خلقها بشر عن قصد. وما إن ندرك ذلك، ما إن نفهم أن النيوليبرالية ليست قوة مثل الجاذبية وإنما هي بناء مصطنع كليا، نبدأ بفهم أن ما صنعه البعض يمكن أن يغيره البعض الآخر. لكنهم لن يستطيعوا تغييره دون الاعتراف بأهمية الأفكار. أنا مؤيدة كل التأييد للمشاريع القاعدية، ولكني أحذر أيضا من أن هذه سوف تنهار إذا كان المناخ الأيديولوجي الشامل معاديًا لأهدافها.

وهكذا فمن طائفة صغيرة غير محبوبة شبه معدومة التأثير، باتت النيوليبرالية الدين العالمي الأساس بعقيدته اليقينية وكهنته ومؤسساته التشريعية وربما الأهم من الجميع، بنار جهنم التي يتوعد بها الكفرة والخطأة الذين يتجرأون على وضع الحقيقة المنزلة موضع شك. إن أوسكار لافونتين، وزير المال الألماني السابق، الذي سمته الـ«نيويورك تايمز» «كينزيا لم يتعرض للإصلاح» قد ألقي في نار جهنم للتو لأنه تجرأ على اقتراح ضرائب مرتفعة على كبريات الشركات وخفوض ضريبية على الأسر المتواضعة ومحدودة الدخل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عالمة اجتماع وسياسة ومناضلة أميركية. لها كتابات عديدة حول التخلف والمجاعة والمديونية وفي نقد النيوليبرالية وسياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. من أعمالها Another World is Possible  (2004) وShadow Sovereigns (2015) عن سيطرة الشركات العابرة للقوميات على السلطة في العالم.

* المصدر: موقع مجلة “بدايات” (فصلية ثقافية فكرية) – العدد 30 – 2021

عرض مقالات: