اخر الاخبار

كانت دون العشرين حين أسست فريقاً موسيقياً من رفاقها ورفيقاتها. ولطالما حلمت منذ طفولتها أن تكون قائدة على المسرح. وفي الثلاثين كانت بين النجوم المميزين الذين يستضيفهم النجم التلفزيوني ميشيل دروكير، في برنامجه الأسبوعي من القناة الثانية. حققت زاهية زيواني حلمها، وصارت قائدة أوركسترا سيمفونية تهتم بالتنوع الثقافي. لهذا اتخذت من ضاحية سان دوني الشعبية مقراً لفرقتها. ومن هناك انطلقت لتقديم عروض في «الأولمبيا» أشهر صالات العروض الفنية في باريس، وكذلك في قاعة مجلس الشيوخ.

مؤخراً، قادت زاهية زيواني الأوركسترا في الحفل الختامي لبرنامج اكتشاف عباقرة الموسيقى من الشباب. وكانت مناسبة لإنتاج فيلم وثائقي عن مسيرة فنانة من بنات المهاجرين، نجحت في ميدان كان مقصوراً على الرجال، وأصبحت قائدة أوركسترا ترفع العصا في وجوه سبعين عازفاً.

بدأت حياتها عازفة لآلة «الفيولا» الوترية التي تشبه «الكمنجة» الكبيرة، والتي تُسند إلى الأرض. وقد وجدت في تلك الآلة ما يشبه شخصيتها في القوة والحضور. دخلت «الكونسرفتوار» وهي في الثامنة من العمر. ولم يكن ذلك مألوفاً لطفلة وُلدت لأبوين مهاجرين من الجزائر، نشأت في حي شعبي فقير؛ حيث يربّي الآباء بناتهم على انتظار «العريس» وليس العزف على آلات غربية. كان عليها أن تتمرن ساعات طوال كل يوم لتمتلك المهارة المطلوبة. ومن ثمّ أسعفها الحظ في التعرف على المايسترو سيرجي سليبيداش الذي انتبه لموهبتها، وتولاها تحت رعايته وتدريبه لمدة سنتين، ما بين فرنسا وألمانيا.

دخلت زاهية جامعة السوربون لدراسة علم الموسيقى. وكانت تقود الفرقة الطلابية الموسيقية للجامعة. أدركت أنها لا تمتلك العلاقات اللازمة التي تساعدها في بلوغ حلمها، فقررت في سن الثامنة عشرة أن تؤسّس فرقتها الخاصة، وأطلقت عليها اسم «ديفرتيمنتو»، وهي مفردة مشتقة من التنوع. كانت البدايات صعبة؛ لكنها نجحت بإصرارها في أن تنال الاعتراف. راحت تتلقى دعوات للعزف في مهرجانات عالمية. كان كثيرون منبهرين بشابة عشرينية جزائرية الأصل تقود أوركسترا للموسيقى الكلاسيكية. وعندما يكون المرء عازفاً موهوباً في الغرب فإن لا أحد يسأله عن أصله وفصله وجنسه. وقد شجّعها نجاحها على أن تقود فرقة موسيقية في الجزائر؛ بلد أبويها وعائلتها. إنها تحمل جنسية البلدين، وتجد متعة في أن تقدم، أحياناً، التراث الموسيقي الأندلسي.

راهنت على أبناء المهاجرين، وفتحت لهم مدرسة في الضاحية الشمالية من العاصمة. هناك يحب الشباب إيقاعات الـ«راب» والـ«راي»؛ لكنها عرفت كيف تجعل تلاميذها يتذوقون نوعاً آخر من الموسيقى. وهي لا تكتفي بذلك؛ بل تأخذ تلاميذها إلى زيارات للمتاحف والمعارض الفنية. وهي أماكن ما كان محيطهم المحدود يشجّعهم على ارتيادها. كانت تقود بنفسها الشاحنة التي تنقل الفرقة وصناديق الآلات الموسيقية إلى حفلات في المدن الأخرى. تقول إنها حاربت -بمعنى الكلمة- في سبيل إتاحة الموسيقى للجميع، للفقراء مثل الميسورين. ومعها دائماً شقيقتها الصغرى فطومة، إحدى عازفات الفرقة.

يوم اندلعت انتفاضة شباب في الضواحي عام 2005 بسبب إلصاق تهمة الإرهاب بهم، لمجرد أنهم من عقيدة مختلفة، ووقعت اشتباكات مع الشرطة، تحركت زاهية زيواني واتصلت بوسائل الإعلام، لتروي مسيرتها بوصفها قائدة أوركسترا نشأت في وسط متواضع، ومن ثمّ باتت تحمل وساماً من الدولة الفرنسية. أرادت كسر النظرة المسبقة لأبناء المهاجرين، وانتبهت إلى أن الإعلام يسعى لاستخدامها نموذجاً فريداً غير قابل للتكرار. كان المصورون يطلبون التقاط صور لها وسط تجمعات المراهقين وكأنها معلمة في إصلاحية للجانحين. لم يُكلّف الصحافيون أنفسهم عناء الانتقال إلى الضاحية؛ بل اكتفوا بإرسال المصورين. وهم قبل ذلك لم يرسلوا مصوراً لتصوير حفلاتها الموسيقية.

ووجدت زاهية نفسها تؤلف كتاباً تروي فيه مسيرتها، وتسجّل كل تلك الملاحظات التي عاشتها بالتجربة، سنة بعد سنة. كتبت أنها صنعت لنفسها مكانة على الرغم من قوى كانت تقاومها وتعرقل تقدمها. ألهمت حكايتها أحد المخرجين، فصنع عنها فيلماً وثائقياً لحساب «كانال بلوس». لقد شقّت طريقها لتصبح قائدة أوركسترا، المهنة التي تمارسها قلّة من النساء. وحتى الرجال فيها هم من الأوروبيين، وممن بلغوا -في العادة- سناً متقدمة؛ فكيف بها وهي كانت امرأة شابة ومسلمة من أصل جزائري؟

منتصف الشهر الحالي، قدمت زاهية عرضاً على مسرح «فيلاهارموني» في باريس. وقدّمت موسيقى تجمع بين «البوب» والتوزيعات الحديثة. كان عازفوها وعازفاتها من الشباب، وبدت وهي تقودهم وكأنها عادت عشرين عاماً إلى الوراء. ما زالت تلك الصبية ذات القامة الطويلة الممتلئة التي تسعى لتجاوز نفسها وتقديم الأفضل.

والسؤال الآن: ما هي الخطوة التالية؟ في رأسها أفكار عدّة ومشاريع للتعاون مع فرق موسيقية أخرى، وكذلك مواصلة تشجيع العائلات المهاجرة على السماح لأبنائها بتنمية مواهبهم الفنية، ومنحهم الثقة التي منحها لها أبواها.