اخر الاخبار

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا العدد السادس والأربعون من الدورية المحكّمة تبيُّن للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية. وتضمن العدد ملفا تناول قضايا فلسفة الأخلاق المعاصرة، واشتمل على الدراسات التالية: “تأملات في الفكر الأخلاقي العربي المعاصر: بحث في العلاقة بين الأخلاق والسياسة” لرشيد الحاج صالح الذي تناول في دراسته نماذج من الفكر الأخلاقي العربي المعاصر من منظور علاقة الأخلاق بالسياسة. وقد اختار الباحث هذا المنظور لأن فلسفة الأخلاق اليوم باتت قريبة، أكثر من أيّ وقت سابق، من المشاكل السياسية الكبرى التي تتعلق بالعدالة والمساواة والحرية. ووجدت الدراسة أن هناك اختزالا للسياسة في الأخلاق، ثم اختزالا للأخلاق في التراث. وقد أدى ذلك إلى ظهور عدة سرديات أخلاقية عربية، الأولى: سردية أن الأخلاق مسألة مثالية ثابتة زمنيًّا تقع فوق المجتمع والسياسة، والثانية: أن “الناس العاديين” هم المسؤولون عن تراجع الأخلاق المزعوم. وجادلت الدراسة بأن القضية التي تقول إن على الأخلاق العربية أن تختار أخلاق التراث أو أخلاق الحداثة، هي قضية زائفة. واستعانت الدراسة بالمسوح العلمية لكي تظهر أن الناس العاديين في المنطقة العربية منفتحون أخلاقيًا، ولم يعودوا يولون الأيديولوجيا أولوية في تفكيرهم السياسي، مثلما أنهم لم يعودوا يربطون بين الأخلاق والهوية، وذلك بخلاف التصورات النمطية المتداولة عنهم بين النخب الفكرية العربية والمستشرقين.

وفي دراسة “خطاب الحداثة الأخلاقية عند تشارلز لارمور” للزواوي بغورة، لمّح الباحث إلى الاعتقاد السائد حتى وقت قريب، ومفاده أن الحضارة الغربية تصدر عن أخلاق حداثية واحدة ومجمع عليها، ولكن واقع الفكر الفلسفي الغربي المعاصر لم يعد يقدم هذه الصورة الواحدة والمتناغمة، ولعل خير دليل على ذلك ما قدمه الفيلسوف الأميركي تشارلز لارمور في مجموعة من نصوصه التي حاول فيها تشخيص مظاهر الخطاب الأخلاقي في عصر الحداثة، والبحث عن الحد الأدنى لأرضية أخلاقية حداثية تصارع ضد أخلاق ما قبل الحداثة باسم الجماعة والتراث، وأخلاق ما بعد حداثية باسم الفردية والمتعة والحرية. وحاول الباحث في دراسته تحليل عناصر هذا الخطاب، وبيان علاقاته وحدوده.

أما دراسة “الأخلاق والسياسة: جدلية الفردي والمؤسساتي” لأحمد نظير الأتاسي، فهي تقترح منهجية جديدة في حل معضلة الأخلاق السياسية، بحيث تحاجّ بأن هناك ما يمكن تسميته “أخلاق المؤسسة”. صحيح أن الأخلاق والسياسة ينتميان إلى عالمين مختلفين كما زعم كثير من الفلاسفة، لكن من الممكن الانطلاق من الفردي وتعميمه وتوسيعه حتى نصل إلى المؤسساتي باستخدام منهجية المنظوماتية (النسقية) في فهم الأخلاق والمؤسسة.

 وأما دراسة علي حاكم صالح “هل يمكن قيام الأخلاق من دون أساس؟ نظرات في أخلاقيات ما بعد الحداثة”، فإن الباحث يصوغ مشكلتها في السؤال: “هل يمكن قيام الأخلاق من دون أساس؟”. ولمناقشة ذلك، ينتخب فيلسوفين هما ريتشارد رورتي وجياني فاتيمو. ومن أجل وضع هذا السؤال في مهاده المفاهيمي والتاريخي، يبدأ بعرض موجز للفكر التأسيساني الغربي الحديث، ويعرض، بإيجاز أيضًا، أهم أفكار الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير، بوصفه أحد الفلاسفة المهمين الذين أسهموا في مناهضة التأسيسانية، وفي ابتعاث التأويلية في القرن العشرين. والتأويلية هي التوجه الفلسفي الرئيس الذي يبشر به رورتي وفاتيمو. ويحاول الباحث أن يوجه مساءلته انطلاقا من مفهوم “تناهي الوجود الإنساني”. وينتهي إلى ملاحظات نقدية تؤكد أن الأخلاق لا تقوم لها قائمة من دون أساس راسخ.

وتُعدّ دراسة “الرهانات الأخلاقية للتسامح في فلسفة توماس سكانلون” لمايكل مدحت استكشافا نقديا للرهانات الأخلاقية التي تثيرها فكرة “التسامح”، كما يقدمها الفيلسوف الأميركي سكانلون في سياق فلسفته الأخلاقية، وفقا للنظرية التعاقدية. لذلك، تحاول الدراسة من الناحية المنهجية ما يلي: توضيح الاختلافات الأساسية بين المذهب التعاقدي وبين مذهب المنفعة ومذهب أخلاق الفضيلة، بوصفها المذاهب الثلاثة الرئيسة المحددة للفكر الأخلاقي في الثقافة الغربية. وتنتقل بعد ذلك إلى توضيح الأسس التي تقوم عليها النظرية التعاقدية عند سكانلون، وما تقتضيه من تأملات جديدة حول دوافعنا الأخلاقية، والطريقة التي ننظم بها سلوكنا الأخلاقي والمبررات الكامنة وراء ذلك، وأيضا الأهداف التي نسعى لها، والطريقة التي يمكننا بها الوقوف على أسس معقولة مشتركة لعملية التداول الأخلاقي. ثم تقدم الدراسة تحليلا للفظ “التسامح” وما يثيره من إشكاليات أخلاقية تتعلق بمعناه وبإمكانية تبريره أخلاقيا وحدوده وإمكانية التداول الأخلاقي المشترك حوله على أسس عقلانية، فضلًا عن المفارقات المرتبطة به. وأخيرا، تختتم الدراسة بتقييم نقدي لرؤية سكانلون الأخلاقية، ومقاربته لفكرة التسامح، في ضوء المعايير المنهجية للنظرية التعاقدية.

من ناحية أخرى، تعقبت دراسة “إشكالية الحرية في الفكر العربي المعاصر بين لطفي السيد وعبد الله العروي” لسفيان البراق مكانة مفهوم الحرية وسعت لرصدها، بحسبانه من المفاهيم المحورية التي انضوت إليها الحداثة عندما انبثقت في أوروبا ابتداءً من القرن السادس عشر عبر جملة من التحولات التي شملت جميع مناحي الحياة: الاقتصاد، والسياسة، والعلوم، والاجتماع ... إلخ، وذلك عند كل من أحمد لطفي السيد وعبد الله العروي. ويحتل السيد مكانة أسمى في الثقافة العربية المعاصرة، ومرد ذلك أنه كان من أبرز المتبنين لقيم الحرية. والأمر راجع إلى أنه رأى فيها مرادفا للحياة، ولا سيما أنه كان، من دون شك، رائدا للتيار الليبرالي في البلدان العربية. أما العروي فإنه قدم، في إطار مشروعه الفكري المؤسس على سؤال الحداثة، سلسلة من المفاهيم (الأيديولوجيا، والحرية، والدولة، والتاريخ، والعقل)، نال مفهوم الحرية مكانة فيها. إن غاية “مفهوم الحرية” هي خلق علاقة سجالية بين التصورات الأولى للحرية في المخيال العربي القديم والتحول الذي طرأ على معناها بعد القرن الثامن عشر عند العرب، وبين الحرية بوصفها مفهوما في وضعه الحديث كما تبنّته البيئة الأوروبية المنتشية بالحداثة السياسية، وهذه عادة درجَ عليها العروي في سلسلة المفاهيم.

وتضمن العدد أيضا ترجمة نجيب الحصادي مقالة لإليزابيث آنسكوم بعنوان “الفلسفة الأخلاقية الحديثة”. وفي هذه الدراسة، تنتقد آنسكوم تمييز هيوم بين “يكون” و”ينبغي”، وتجادل بأن إقرارات “ينبغي” لا تحمل معنى إلا في سياق لاهوت أخلاقي يؤسّس للأخلاق في أوامر إلهية. ولأن الثقافة الغربية المعاصرة تنكر هذا النوع من اللاهوت، فإنّ فلاسفة الأخلاق الحديثين عجزوا عن العثور على قدر كبير من المعنى في هذه الإقرارات؛ ما يلزمنا بالعودة إلى تصورات أسبق في العقلانية العملية والفضيلة. وتنطوي المراجعة على ثلاث أطروحات: أولها أنه لا جدوى من الاشتغال بفلسفة الأخلاق ما لم تكن لدينا فلسفة علم نفس ملائمة، وثانيها أنه ينبغي لنا التخلي عن مفاهيم الإلزام والواجب والصائب أخلاقيا والخاطئ أخلاقيا، وثالثها أن الفروق بين المؤلفين الإنكليز المعروفين في الفلسفة الأخلاقية من سيدغويك إلى يومنا هذا لا تكاد تحوز أي أهمية.

وفي باب “مراجعات الكتب”، نشرت في العدد مراجعتان: الأولى مراجعة كتاب من تعددية الأخلاق إلى أخلاق التعددية لعبد القادر ملوك، أعدها عبد الكريم عنيات؛ والثانية لكتاب محاضرات في تاريخ فلسفة الأخلاق لجون رولز، أعدها محمد عثمان محمود.