اخر الاخبار

“علينا أن نشكل هناك [يقصد في فلسطين] جزءاً من السور الأوروبي ضد آسيا ومخفراً أمامياً للحضارة بوجه البربرية. وعلينا كدولة محايدة أن نظل على اتصال بأوروبا برمتها والتي سيكون عليها أن تضمن وجودنا”.

ثيودور هرتزل، دولة اليهود، ص49.

في الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بعد تشكيل حكومة طوارئ ومجلس حرب استعمل عبارات من قبيل: “الحيوانات المفترسة” و”البربريون الذين نواجههم”. ولكي يكون وصفه العنيف هذا مقبولاً ومبرراً لمستمعيه، تبعه بجملة من المشاهد الدامية، منها: “رأينا أطفالاً تكبل أيديهم وتطلق النيران على رؤوسهم”، “نساء حرقوا وهم أحياء”، “شابات اغتصبن وذبحن”، “مقاتلون قطعت رؤوسهم”، “أناس أدخلوا في مكان واحد وحرقت إطارات السيارات على أجسادهم”...... وسرعان ما تبين أن تلك المشاهد قد أخرجها ذهن قالها، وأن الهدف منها كسب تعاطف الرأي العام العالمي، إذ لا وجود لما أدعاه، فلا أطفال قطعت رؤوسهم، ولا نساء أحرقن أو اغتصبن.

وليحتفظ القارئ بالمفردات الواردة في خطاب نتنياهو “مفترسون” و “بربريون”، وذلك لأنها ليست كلاماً عابراً أو عرضياً في سياق خطابه، أنها تعبير عن عقلية وثقافة راسخة لها تاريخ طويل، ثقافة استعار منها نتنياهو، وقبله ثيودور هرتزل (الأب الروحي للحركة الصهيونية) الذي  يميز بين أوروبا المتحضرة وآسيا البربرية، وعلى نحو مطلق لا استثناء فيه، وكأن آسيا الشاسعة كتلة واحدة لا اختلاف أو تباين بين مجتمعاتها وحضاراتها!  وقد سبق هؤلاء (نتنياهو وهرتزل) الكثير من الغربيين، سياسيون، أدباء، مؤرخون، رجال دين، مستشرقون، صحفيون، شعراء ... إلخ، في وصفهم لغيرهم، لأولئك الذين كانوا أخر بالنسبة لهم.

يرى الغرب أن جذوره الحضارية امتداد لليونان القديمة، وان تاريخه ابتدأ مع هذه الحضارة، بوصفها الأفق الفكري الذي نهل منه وتعلم، فهي المرجع والتراث الذي تأثر به واقتبس منه تصورات كبار فلاسفته ومفكريه في الفلسفة والسياسة والاجتماع والتاريخ والدين والعلوم. لقد كان اليونانيون القدماء يعدون كل من لا يتكلم اليونانية بربري. والمصطلح يحمل معاني التحقير والازدراء. وهكذا أحال اليونانيون، الذين وُلد المصطلح واستعمل في كنف ثقافتهم، كل من لا ينتمي إلى عرقهم ولا ينطق لغتهم، إلى بربري أدنى مرتبة منهم، فقد صنفوه في ضوء رؤيتهم لذاتهم، فكان الآخر الذي يختلف عنهم، دونهم منزلة وأقل شأناً.

غير أن هذه التصورات حول الآخر موجودة لدى معظم المجتمعات والحضارات التي تظهر على مسرح التاريخ، وخاصة تلك التي يكون لها منزلة وتأثير، وهو أمر ينطبق على الحضارة الرومانية، ومثلها المسيحية لاحقاً، وحتى الإسلامية. ذلك أن كل ما هو أجنبي لا يشبهني لغة ودين وثقافة فهو آخر. وأما إذا كان هذا الآخر قد دخلت معه الذات في عداء وصراع، فهنا لا تكتفي الذات بتصويره كعدو وحسب، بل تضفي عليه من مخيلتها شتى صور الشرور، التي تخرجه من دائرة الآدمية إلى دائرة الحيوانية. وهذا بالضبط ما فعله نتنياهو، وقبله الكثير من قادة إسرائيل. ولذلك لا غرابة، في أن يصف هذا الأخير غزة بأنها “مدينة الشر”. وحين توجد “مدينة شر” فهناك مدينة “خير وسلام”، والأخيرة هي إسرائيل التي نالها الشر، كما نالها فيما مضى على أيدي البابليين. وكأنه يحاكي في وصفه لغزة مدينة بابل التي تصورها التوراة مدينة خطايا وشرور وعدها الرب بالتدمير والإبادة. ومصير غزة شأن مصير بابل “تحويلها إلى دمار”، يقول نتنياهو، ويكرر معه قادة جيشه القول ذاته. وهو ما يحصل على أرض الواقع، كما نرى ونتابع.

وهكذا، فالصور الواردة في خطاب نتنياهو لم تكن معطى عفوياً أو زلة لسان، أنه يحيل مستمعيه من الصهاينة والغربيين وغيرهم من حلفاء الكيان، إلى ثنائية المتحضر والبربري، الإنساني والمتوحش. وثنائية كهذه تجعل من هويته أعلى منزلة وأكثر قيمة، فهي هوية “المتحضر” و “الإنساني”، وهوية غيره أقل منزلة وبلا قيمة، لأنها هوية “البربري” و “المتوحش”. ووظيفة التمييز هذا أنه يبرر له استعمال أشد الأسلحة فتكاً ودماراً، ويجعل من إبادة “مدينة الشر” أمراً مشروعاً، لأن هوية “البربري” خارج دائرة الحضارة والإنسانية، ولذلك فان إبادته، حتى لو أدى ذلك إلى خرق قوانين الحرب، عمل يكرس الحفاظ على هوية “المتمدن” و “المتحضر” و”الإنساني”، فتلك الهوية هي التي تستحق الحياة وغيرها مصيره الإبادة والفناء!

والغرب هو من دفع بهذا الخطاب وروج له على صعيد واسع، بل وغرسه في أذهان أجيال عديدة من شعوبه (ولا زال). فمن خلاله برر غزو مجتمعات ودول، وذلك تحت مسمى (الرسالة الحضارية). ويقصد بذلك أن وجوده في آسيا وأفريقيا وغيرها، كان من أجل هذه الشعوب، فهو يعمل على تعليمها وتحديثها لكي تلتحق بركب الحضارة والمدنية، أي نقلها من حال “التوحش” و”البربرية” إلى حال “التحضر” و “التمدن”. وعنوان عريض كهذا، من شأنه تبرير مهمته في عالم ما وراء البحار (المستعمرات)، وإقناع شعوبه بأنه يعمل على انتشال، من هم أعراق أدنى، من التخلف والانحطاط بعيداً عن الهيمنة والاستغلال.

ولهذا، فإن مفردات “برابرة” و “متوحشون” يفهمها السياسيون والمثقفون وحتى العامة في الغرب. إنها مفردات تذكرهم بمهمتهم في الشرق، زمن الاستعمار، كما أنها تشعرهم بأن هناك من يواصل مسيرتهم. لا سيما أن بعض القوى الكبرى ما عادت تميل إلى شن الحروب أو التدخل العسكري المباشر، وتفضل سياسات أقل كلفة، مثل: فرض العقوبات، التلويح بورقة حقوق الإنسان وخلق الأزمات السياسية والاقتصادية، شن الحروب بالوكالة، ومن ثم فإن وجود من يردع أعداء القوى الكبرى ويهدد مصالحها في المنطقة، كما تفعل إسرائيل في حربها مع القوى المنأوئة لها ولبعض دول الغرب، لهو عمل كفيل بمساعدتها والوقوف معها، ما دامت سياسات إسرائيل وخططها في المنطقة تتسق وتلتقي مع مصالح الغرب.

وهذا الانسجام في المصالح نجد تفسيره في دعوة هرتزل عام 1896 إلى تأسيس إسرائيل في أرض فلسطين، بوصفها قوة متقدمة هي امتداد للحضارة والحداثة الأوروبية، وعنصر ردع للبرابرة والمتخلفين في آسيا والمنطقة. كما أن هذا الانسجام هو الذي يفسر لنا أيضاً، أن استعمال أكثر الأسلحة فتكاً، والتي لا تفرق بين عسكري ومدني وتخالف كل الأعراف والقوانين، يلقى الدعم والتأييد من طرف “المعسكر المتحضر” في العالم اليوم، والذي يدعوه رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى الاتحاد والتكاتف، في سبيل استكمال مهمته الحضارية التي تجيز له، وبدعم غربي معلن وصريح، من تنفيذ مشروع الإبادة والتطهير “للمتوحشين” و “البرابرة”، كما يؤثر نتنياهو تسميتهم.

لكن هذه المهمة الحضارية التي تحمل لوائها اليوم إسرائيل في المنطقة، يسير إلى جانبها مشروع اخر هو مشروع الشرق الأوسط الجديد، والذي أعلن عنه منذ انطلاق العمليات. وغير بعيد أن صمت معظم حكومات المنطقة، يقف خلفه تماهيها مع هذا المشروع الذي يكرس إسرائيل دولة فاعلة، قوية، منسجمة مع محيطها، كما يعيد ترتيب واقع المنطقة بما يخدم مصالح الكيان والدول الكبرى، لا مصالح دول المنطقة وتطلعات شعوبها. وهذا المشروع إذا ما كتب له النجاح، فان القضية الفلسطينية تكون قد شهدت فصولها الأخيرة، وأن كل الوعود والمعاهدات بإنشاء دولة فلسطين وعودة اللاجئين وتعويض المتضررين لا قيمة لها، ما دام الأقوياء والفاعلين في العالم والمنطقة اليوم (الغرب وإسرائيل)، هم من يقرروا حاضر ومستقبل دول الشرق الأوسط. 

ختاماً، ثمة مفارقة تكمن في صميم الخطاب الصهيوني المعاصر، وهي أن زعماء إسرائيل تمثلوا الخطاب ذاته الذي كان يتداوله فيما مضى الغرب حولهم. فهم في أدبيات هذا الأخير “همج” و “غير متحضرين” و “حيوانات” و “محتالون” و”حقراء” و “مرابون” ... الخ. ومنذ زمن يستخدم زعماء الكيان ووسائل إعلامه الخطاب ذاته بحق العرب عامة والفلسطينيون خاصة، وهو سلوك يرينا كيف أن المضطهَد يتمثل خطاب المضطهِد، متناسياً أنه يستعيد تصورات وأفكار لطالما عانى من وقعها، ولطالما أخذته إلى الإبادة والتطهير والتدمير من طرف الايديولوجيات الأوروبية المعاصرة (النازية والفاشية)، تلك الايديولوجيات التي تجرده من انسانيته وتحيله إلى شيء لا قيمة له، ما يجعل من قتله وتشريده في المنافي عمل لا مشكل فيه. وذلك هو عين ما يعيشه الفلسطينيون منذ أكثر من 75 سنة، ولكن ليس على أيدي الأوروبيين مباشرة، وإنما بأيدي من كانوا إلى زمن قريب جداً ضحايا ومضطهدين في أوروبا! والمفارقة الثانية أن مفردات “الإبادة” و “التطهير” التي عاشها اليهود وخبروا مآسيها، في أوروبا وليس في العالم العربي أو في فلسطين تحديداً ، لا سيما في النصف الأول من القرن العشرين، هي ذاتها التي يستخدمها اليوم قادة إسرائيل (حكومة وجيش) بحق غزة التي قُرر مصيرها بوصفها “مدينة الشر”!.

عرض مقالات: