اخر الاخبار

توازياً مع أحداث غزة الدامية، أعلن معرض فرانكفورت تأجيل حفل تكريم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي الفائزة بجائزة “ليبراتور” عن روايتها القصيرة “تفصيل ثانوي” الصادرة عن دار الآداب في 2017.

تمنح تلك الجائزة من جمعية “ليتبروم” إلى الآداب الأفريقية والآسيوية والأميركية الجنوبية. أي أنها جائزة للآخر، أو لضحية الماضي الاستعماري، لذلك احتفت لجنة التحكيم برواية شبلي “كعمل فني محكم يحكي عن سطوة الحدود، وما تفعله الصراعات الدموية في البشر”.

ومنذ إعلان فوز الرواية في يونيو الماضي انتقدتها بعض الأصوات في ألمانيا واعتبرتها “معادية لإسرائيل ومعادية للسامية”، وتظهر الإسرائيليين في صورة “مغتصبين وقتلة”.

مع ذلك حظيت بترحيب في ترجماتها المختلفة، ورشحت عام 2021 في ترجمتها الإنكليزية إلى جائزة البوكر الدولية، وفي عام 2022 إلى القائمة القصيرة لجائزة الأدب الدولية التي تمنحها دار ثقافات العالم في برلين.

لكن اللغط تجدد تحت وقع الأحداث الحالية، وتم تعليق حفل التكريم، وأعلن معرض فرانكفورت دعمه المطلق لإسرائيل حيث قال مديره: “نريد أن نجعل الأصوات اليهودية والإسرائيلية مرئية خاصة”. فيما سربت الجمعية المانحة ورئيسها هو نفسه رئيس المعرض، أن تأجيل الحفل كان بموافقة عدنية، وهو ما نفاه وكيلها الأدبي.

في ظل تلك الأجواء قرر ناشرون وهيئات ثقافية عربية مقاطعة فعاليات المعرض والانسحاب منه، ووجه محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين العرب خطاباً إلى يورغن بوس مدير المعرض، عبر خلاله عن أسفه العميق للموقف المنحاز وغير العادل تجاه الأوضاع المأساوية للشعب الفلسطيني، وانتقد تصريحات بوس التي لا تعكس العلاقات العربية الاستثنائية، وعليه انسحب اتحاد الناشرين العرب وكذلك هيئة الشارقة للكتاب.

لا يقتصر الشد والجذب على رواية شبلي، ولا انسحاب العرب، فحتى الفيلسوف المعروف سلافوي جيجك ممثل سلوفينيا ضيف شرف المعرض، تعرض للمقاطعة مراراً وصيحات الاستنكار، حسب ما رواه المترجم سمير جريس، لأنه تجرأ وأكد أهمية الإصغاء للصوت الفلسطيني، ولم تشفع له إدانته لما فعلته حماس.

وهكذا اختلطت الأصوات والمواقف، حول المعرض ورواية شبلي والأوضاع المأساوية في الأراضي المحتلة. فنادي القلم في برلين، حسب ما نشره جريس، دافع عن الرواية، وقالت المتحدثة باسمه، الروائية إيفا ميناسه، ذات الأصول اليهودية، إن الرواية لن تصبح أفضل، أو أسوأ، لمجرد تغير نشرة الأخبار. إما أنها تستحق التكريم أو لا تستحق”.

 وانتقدت ضيق الأفق في التلقي، لأنه من حق الكتاب العرب أن تكون لهم سرديتهم مع المعاناة والاحتلال.

 

تضامن

حسب بيان نشر في “لوموند” أشار إليه المترجم وليد السويركي، تلقت شبلي رسالة تضامن من حوالي ستمئة كاتب، منهم أدباء معروفون عالمياً نالوا جائزة نوبل مثل آني إرنو، وعبد الرزاق قرنج، وأولغا توكارتشوك، ومما جاء في بيان التضامن أن معرض الكتاب يخلق مساحة للكتاب الفلسطينيين لمشاركة أفكارهم ومشاعرهم وتأملاتهم حول الأدب في هذه الأزمنة العصيبة والقاسية، لا قمعهم.

ودخل على الخط معرض زايد للكتاب في مصر، والذي أعلن عن تكريم شبلي وتسلم الدرع المستشار الثقافي للسفارة الفلسطينية في القاهرة، بحضور كوكبة من المبدعين والإعلاميين، منهم الروائي إبراهيم عبد المجيد الذي ألقى كلمة شديدة اللهجة اتهم فيها الدول الغربية الكبرى بالكشف عن وجهها القبيح عملياً بمساندة إسرائيل بالأسلحة والمال، وإعلامياً بترديد الأكاذيب.

كما انتشرت أخبار كثيرة عن نشر كل أعمال الكاتبة عربياً، وأعلنت مكتبة “تنمية” عن نشر طبعة مصرية من الرواية محل السجال.

ورغم صخب التضامن مع الروائية والرواية عربياً، إلا أن الكاتب نزار آغري، وهو سوري كوردي مقيم في أوروبا، خالف التضامن وكتب منشوراً مطولاً ليدلل بأن نص شبلي “منسوج قلباً وقالباً، حتى في عدد الصفحات، على منوال رواية “خربة خزعة” للكاتب الإسرائيلي س. يتزهار. كل شيء مأخوذ من هناك: الفكرة، الأحداث، الشخصيات”.

ويخلص إلى أن رواية يتزهار أفضل لأنها “نص مكثف، عميق، متقن، يغوص في أعماق الوقائع ويرسم شخصيات تنبض بالحياة”، بينما “رواية” عدنية فهي، على حد وصفه، “نص دعائي، سياسي، منحاز، من أول سطر... مباشر، لا يشده إلى الرواية كفنٍ أي مشد. شخصيات ورقية، أسود أو أبيض”.

 تفصيل ثانوي

تقع رواية عدنية في أقل من مئة وعشرين صفحة، وتنقسم إلى جزءين، الأول أقرب إلى صيغة يوميات، يتناول أربعة أيام ما بين 9 و12 آب عام 1949، لكنها ليست يوميات على لسان إحدى الشخصيات، بل تحكي بمنطق الراوي المحايد، وليس العليم، بمعنى أنه لا مجال لاستبطان ما يدور في دواخل الشخصيات، ولا التعليق على ما يجري، لأن الأسلوب بدا أقرب إلى كاميرا مراقبة مثبتة فوق مرتفع وسط صحراء قاحلة، تراقب المشهد ذاته بالبلادة ذاتها على امتداد ستين صفحة تقريباً، قائد مجموعة عسكرية تمشط صحراء النقب باتجاه غزة، بعض العربات وكلب ينبح وريح ورمل.

لا شيء مهم يحدث، ولا نقلات درامية، فالزمن صفري تقريباً، والهيمنة للجملة الوصفية المتقشفة جداً، الخالية من أي مجاز أو زخرفة: “فتح عينيه على ظلمة حالكة وحر شديد في الغرفة. كان جسمه ينضح عرقاً”. هذا ما يطالعه القراء حتى نهاية الرواية، وصف متأنٍ إلى درجة الملل، لحركات وتفاصيل وشخصيات ثانوية.

وينتهي هذا الجزء بالحدث الوحيد، والمهم، حين تهاجم المجموعة العسكرية بعض البدو فتقتلهم هم وجِمالهم، وتأخذ فتاة لا نعلم عنها أي شيء، ثم تتعرض للاغتصاب والقتل لاحقاً، ويُلقى بجثمانها في بئر.

هنا انحازت شبلي للتفاصيل الصغيرة جداً التي لا يلتفت إليها أحد، تحاشت الأحداث الكبيرة، والشعارات الرنانة، صورت مجموعة جنود للاحتلال، كأي مجموعة مشابهة لها في العالم، تقوم بفعل دموي: اغتصاب وقتل امرأة، ربما تحت وطأة طبيعة حياتهم العسكرية غير المريحة وغير الإنسانية أساساً. بمعنى آخر، لا تبالغ لغة شبلي لا في التعاطف مع المرأة الضحية، ولا في إدانة الجناة، بل اتكأت على لغة شبه محايدة، وأقل إدانة للجنود من التقارير الإسرائيلية نفسها التي أرّخت للواقعة، وما قيل في محاكمة الجنود أنفسهم. 

فالكاتبة لم ترغب في التأريخ لخمسة وسبعين عاماً من الاحتلال، ولا قول كل شيء، ولا رصد آلاف الحالات من القتل والتهجير والاغتصاب، بل اكتفت بحادثة تاريخية واحدة قد تبدو عرضية.

مجرد “تفصيل ثانوي” من الصورة الكبيرة، حسبما أشارت في الجزء الثاني من روايتها، والذي جاء على لسان موظفة في رام الله، ولدت في نفس يوم الاغتصاب والقتل لهذه الفتاة، لكن بعد ربع قرن. ثم قررت عام 2005 تقريباً أن تقوم برحلة إلى موقع الجريمة، مجازفة بحياتها.

يبدو الجزء الثاني أكثر حيوية من الناحية السردية، بسبب حميمية ضمير الأنا، وقالب الرحلة وتوتراتها ما بين رام الله إلى مستوطنة “نيريم”، ولأن الكاميرا لم تعد حيادية ولا تبالي، وإنما تنعكس من عيني امرأة، الصور ذاتية، ومربكة، وكاشفة للبؤس الذي يعيش فيه الجلاد والضحية معاً.

نحن، في الجزءين، أمام امرأتين بين قتل الأولى وولادة الثانية ربع قرن، يجمع بينهما تفصيل ثانوي أن يوم قتل إحداهما هو نفسه تاريخ ميلاد الأخرى. ماتت الأولى ضحية عنف المحتل، وعاشت الثانية ضحية عنف المحتل أيضاً.

كأننا إزاء احتمالين للقصة ذاتها، امرأة لا تحمل سلاحاً ولا تهدد أحداً، مع ذلك هي معرضة للاغتصاب والقتل بوحشية، مثلما هي معرضة لأن تعيش هذا الرعب كله تحت وطأة تلك الهواجس. كأن الفتاة المروي عنها، صورة سالبة، للشابة الراوية في الجزء الثاني، احتمالها الآخر، وإرثها الخفي الذي يسكن روحها، إلى درجة أن يتساوى تاريخ الموت والولادة!

لم تتجاوز عدنية في نصها المكثف حدود التعبير عن جراحها التاريخية كامرأة فلسطينية، وضحية، وهذا هو توجه الجهة المانحة للجائزة أساساً، وسيكون مقبولاً ويحظى بالتشجيع إذا صدر هذا النص عن كاتبة من أي عرقية مضطهدة في العالم، لكن المشكلة أنه صدر عن “فلسطينية” ويمثل إدانة، ولو خافتة، للمحتل الإسرائيلي. وهذا ما لا يقبله الغرب المتحضر الذي حصن السردية الإسرائيلية دون أي انتقاد حقيقي أو مجازي بتهمة “معاداة السامية”، ووضع للأبد، أي شكل للمقاومة الفلسطينية، حتى لو رواية أو أغنية، تحت مسمى “الإرهاب”. فليس من حقل كاتبة فلسطينية أن تنظر إلى ذاتها كضحية، ولا أن تدين المحتل، لأن المحتل نفسه يلعب الدورين بالبراعة ذاتها، فهو الجلاد إذا شاء، وهو أيضاً وحده الضحية المستحق للدموع والتعاطف. ولهذا زايدت إدارة المعرض فأنكرت الرواية وتنصلت منها، رغم أن التقارير الإسرائيلية نفسها تدين الواقعة التاريخية، وهكذا تعامل المعرض مع الكاتبة كأنها الجلادة المدانة، بينما فتح منصاته كلها لبكائيات المحتل الجلاد.

عرض مقالات: