اخر الاخبار

شارك كثير من النساء العراقيات في الحركة الوطنية، لا عن وعي بما تستهدف الحركة، أو فهم لمبادئها، وقناعات فكرية بها، تأثُراً وانتصارا لما يؤمن به الابن أو الزوج أو الشقيق، وقد يأتي الايمان والقناعة متأخرين، ويبقى للشاعر تأثيره في تبني هذا المنهج أو ذاك. وتاريخ الحركة الوطنية في العراق حافل بكثير من النماذج لنساء سرن في دروب النضال الوعرة، دون أن يحملن الفهم الواعي لطبيعة الفكر الذي يؤيدنه، إلا أنهن يؤمنَّ أيمانا كاملا بأن هذا الفكر حري بإيصالهن إلى شاطئ الأمان، وكفيل بتحقيق ما يتطلعن إليه من حياة حرة كريمة، ونتيجة قناعات بمصداقية العاملين فيه، وما أثبتته الأيام والوقائع من إخلاص وتفان لهؤلاء في الدفاع عن الفقراء والمحرومين ومن اكتووا بنار الظلم والتعسف.

وللأمهات العراقيات صفحات خالدة في السفر النضالي للحركة الوطنية وطليعتها الحزب الشيوعي، الذي هيمن لعقود على ناصية الكفاح الوطني، وخاض غمار النضال غير هياب ولا وجل، يتصدر الصفوف في الدفاع عن حقوق الكادحين.

 ولو استعرضنا المآثر الرائعة للنسوة العراقيات لاحتجنا إلى مجلدات تؤرخ لفترة عصيبة من تاريخ العراق الحديث، قدمت من خلاله الكثير من التضحيات، وتحملت الكثير من الآلام، وواجهت العسير من الصعوبات، وجوبهت بكثير من العنت والصلف، ووجهت لها الاهانة من زبانية السلطات الحاكمة في العراق في مختلف العهود والأزمان، وأن أنس فلا أنسى طوابير النساء وهن يحملن الحاجيات والأغراض في المواجهات الشهرية، ويتحملن صنوفا شتى من الأذى والاضطهاد من الشرطة القساة الذين فقدوا الإنسانية وتحولوا إلى وحوش كاسرة، وآلات بيد الحكام المستبدين:

ويمه أذكر من أجينة نواجهك مصباح جمعه

جينة واحـــدنه رﭽيـﭺ الريـــح لــــو هبــــت تدفعه

ومن هؤلاء امرأة عرفتها إلى جانب كثيرات ربما يكون لهن مكان في الذاكرة، من فضليات النساء العراقيات، إنها (ام جواد) التي سارت في دروب مليئة بالمصاعب والشقاء، تتابع خطوات أبنها في نضاله العنيد لبناء وطن حر وشعب سعيد، وتحملت جراء ذلك صنوف من الأذى والاضطهاد، شاءت لها الأقدار أن تشارك أبنها في الحركة الوطنية، وتسير معه خطوات دربه خطوة خطوة، غير عابئة بما أصابها من رذاذ، فقد انتمى للحزب الشيوعي بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958، فخاضت معه هذه المسيرة الطويلة، وتحملت أعباءها بكل ما تحمل من آلام ومصاعب، تقول” بعد ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة، وانطلاق الشعب العراقي بقيادة طليعته المناضلة الحزب الشيوعي، كان لأبني البكر مشاركته الفاعلة في تنظيم المدينة، وناشطا في اتحاد الطلبة العام، وبروح شبابية مفعمة بالأمل وبناء الغد الجميل البسام أندفع بنشاط للمشاركة في بناء الاتحاد، وترسيخ التنظيم على أسس قوية، فكان يخرج صباحا ليعود في ساعة متأخرة من الليل، لا يتحمل شيئا من أعباء الحياة، لعدم مسئوليته عن أسرة أو إعالة عائلة، وجل ما يحتاجه يحصل عليه مما تستطيع الأسرة توفيره.

ولم تكن متطلبات الحياة في تلك الفترة كما هي عليه الآن، فلا تعدو الملابس البسيطة والطعام البسيط ومصروف لا يؤثر على دخل الأسرة، لذلك صرف جل وقته لعمله التنظيمي ونضاله الوطني، وكنت أوفر ما يحتاجه بعلم الأسرة أو بدونه، مشجعة له على السير في طريقه الشائك دون حساب للعواقب وما قد يترتب على ذلك من أمور، لذلك ما أن انقلبت الثورة على أبنائها حتى بدأت مسيرة الآلام والدموع، ورحلة العذاب بين السجون والمعتقلات.

في تلك الأيام الخالدة لم أكن أفهم من الشيوعية إلا إنها دفاع عن المظلومين والفقراء، والسعي لمساعدة المحتاجين، لذلك كنت مندفعة لتقديم العون لمن يحتاجه، بسجايا نفسية وتربية أسرية أو شعور بآلام الآخرين.

وكان إلى جوارنا أبناء أيتام فقدوا أمهم، ولا يوجد من يرعاهم، فكنت أحاول ما وسعني الجهد مساعدتهم وتقديم العون لهم، وكنت أوفر لهم الملابس والزاد وأقوم بتنظيف أجسامهم وأرعى شؤونهم ضمن ما أستطيع عليه، فكان ذلك سببا لاتهامي من قبل عائلتي بأن وراء اندفاعه هذا بما أقدمه من مساعدة له أو للأسرة الفقيرة المجاورة لنا، واني لولا إيماني بالشيوعية لما أعنت هذه الأسرة على مواجهة أعباء الحياة.

 وكان والده لا يتعاطف مع توجهاته السياسية، وعندما أعتقل ذات يوم في أمن الحلة لم يحاول والده أو أعمامه متابعة قضيته أو زيارته وتوفير احتياجاته، فكنت مضطرة لمخالفة الأسرة ومتابعته، وتوفير ما يحتاجه من مصروف أو طعام وملابس، وإيصالها إليه في سجنه، وبدأت رحلة العذاب.

وفي الصباح خرجت وأنا لا أدري إلى أين توجه وذهبت إلى دور أصدقائه فلم أجد أحدا منهم وقد ظهر أنهم اعتقلوا معه تلك الليلة، وقد جمعتنا وأهلهم المصيبة فكنت أستقي المعلومات منهم وقد علمت بأنهم لا يسمحون بمواجهتهم لأنهم لا زالوا تحت التحقيق، وبعد أيام علمت بأنهم سمحوا بمواجهتهم، فلم أكن أعرف كيف الوصول إلى السجن، وكيفية دخوله، ولكن الحاجة أم الاختراع، فسرعان ما هيأت ما يلزمه من طعام وزاد وملابس، وتوجهت إلى الحلة مستفسرة من هذا أو ذاك عن كيفية الوصول والدخول إلى الأمن، وتمكنت من مواجهته، فوجدته في حالة يرثى لها نتيجة التعذيب وأثار الكدمات على وجهه، ويديه، وتمكنت من السيطرة على مشاعري كأم شاهدت ولدها البكر في هذه الحالة، ووجدت النساء المواجهات دامعات العيون عند مواجهة أبنائهن، مما يؤثر بشكل كبير على معنوياتهم، فكنت أكتم في داخلي ما أعاني من آلام و أواجهه ببسمة موحية وكلمات مشجعة بأن السجن للرجال وعليه تحمله بشيمة الرجال وإصرارهم وعدم الانحناء للعاصفة، فكان هذا الموقف مبعث فخر له أمام رفاقه على ما حدثني بعد خروجه من السجن، حتى قال له أحدهم، هنيئا على هذه الأم الشجاعة ولو كان أمهاتنا مثلها لما شعرنا بما نشعر به من عذاب السجن.

 وقد مكث في الحبس أربعة شهور أطلق بعدها سراحه بكفالة، وعاد لممارسة مهامه الحزبية باندفاع أكثر رغم وعورة الطريق، ومحاولات الأهل ثنيه عن السير في هذا الطريق، فكنت الوحيدة إلى جانبه بما عرف عن الأم من حب وعاطفة وحنان لا تحده حدود، وكنت ملزمة أن أوفر له ما يحتاجه، فكنت أعطيه كل ما ادخرت للأيام، لأني أعرف أنه لا يرتدع عن السير بهذا الطريق على ما لمسته من إصرار وعزيمة لديه.

وبعد عدة شهور لم أشعر إلا وقوات الشرطة والأمن تطوق الدار في ساعة متأخرة من الليل ومعهم المختار واثنان من أهل المنطقة، ودخلوا الدار وبدأوا بالتفتيش ولم يتركوا شيئا دون أن يفتشوه حتى الملابس القديمة، وبحثوا في رماد التنور، ولكنهم لم يعثروا على أي شيء، وكنت قد تعلمت شيئا من الاجراءات المطلوبة فسرعان ما أعددت له لفة الفراش، وأعطيته مبلغا من المال لمصروفاته رغم أن ضابط الأمن طمأننا بأنه سيخرج غدا أو بعد غد، ولكني كنت أعرف ما تعني هذه الكلمات لمثل هؤلاء الأجلاف، وان كلامهم المعسول يخفي وراءه الكثير من الشر والأذى، وكما تعلمت من الاعتقالات السابقة فان الأمن لا يسمح بمواجهته إلا بعد انتهاء التحقيق وبما أن اعتقاله كان البارحة فلا مجال لمواجهته لذلك ذهبت إلى أصدقائه لعلمي بأنهم قد اعتقلوا معه لأستشف الأخبار منهم، وفعلا وجدت الكثير منهم قد اعتقلوا في نفس الليلة، وان آباءهم أو أقاربهم ذهبوا للاستفسار عنهم وطلبت منهم إخبارنا عما يحدث من تطورات.

وبعد ثلاثة أيام علمت بأن الأمن سمح بمواجهتهم فتوجهت إلى مديرية أمن الحلة غير عارفة بالطريق للوصول إليه، وعندما وصلت إلى هناك التقيت بأحد الشرطة واقفا أمام باب الدائرة فسألته عن المعتقلين وهل يسمح لي بمواجهتهم فسألني عن المنطقة التي اعتقلوا فيها فأخبرته بالمكان فقال لي اذهبي إلى ذلك الشرطي ليخبر الضابط ويسمح لك بمواجهته، وتوجهت أليه وأخبرته بالأمر فغاب قليلا ثم عاد طالبا مني مرافقته فأدخلني على شخص يجلس خلف منضدة صفت عليها الأوراق سألني عن اسمي واسم المعتقل وعلاقتي به، فأخبرته باني والدته فقال لي لماذا لا تمنعوا أبناءكم من الدخول في الأحزاب والمشاركة في العمل السياسي وإثارة القلاقل ضد الحكومة، إلا تعلمون بان زيارتهم والسؤال عنهم وجلب المصروف والأطعمة لهم يشجعهم على الاستمرار في أعمالهم المخالفة للقانون، فقلت له لو كان لديك أبناء لعرفت ما هو الابن وما هو حنان الأم أو الأب وعندما يصبح لديك أولاد ستعرف ما هي محبتهم.

 ويبدوا انه رق لحالي أو أثرت به كلماتي فنادى على أحد الشرطة وطلب منه إيصالي إلى غرفة المعتقلين، فوجدته خلف القضبان ومعه أصدقاؤه الذين اعتقلوا معه، فاستقبلني بابتسامته المعهودة ونظرته المشجعة فتمالكت أعصابي وواجهته بما يتطلب الأمر من قوة وشجاعة، ثم سألته عن الحال فأخبرني أن لا شيء ضده وأنه سيخرج قريبا، فسلمته الملابس والطعام وما تيسر من نقود ثم ودعته وعدت إلى أهلي وأنا لا أستطيع البكاء أمامهم خوفا من شماتتهم أو البكاء أمامه حتى لا يشعر بالأسى والحزن.

وكنت أذهب إلى بيوت أصدقائه من المعتقلين وأبكي ما شاء لي البكاء لأني كنت أجد الكثير منهن باكيات مولولات فكنت أغتنم الفرصة لأطفئ النار المشتعلة في قلبي، وظل في السجن أكثر من ثلاثة أشهر أطلق سراحه بعد ذلك بكفالة.

وبعد خروجه بأيام داهمت الشرطة البيت وألقت القبض عليه لتخلفه عن الخدمة العسكرية، ولأنه كان مؤجلا لكونه طالبا ولكونه قد فصل من المدرسة بسبب اعتقاله فكانت فرصة لأبعاده والخلاص منه بسوقه إلى الخدمة الإلزامية، وعلمت فيما بعد أن جدته قد ذهبت لأخيها المختار وطلبت منه الأخبار عن تخلفه حتى يساق للخدمة وتتخلص منه ومن مشاكله.

وبعد أيام وردتنا منه رسالة يخبرنا فيها أنه في مدينة الموصل، وعندما جاء بإجازة بعد أكثر من شهرين أمتنع عن الالتحاق بعد انتهاء إجازته، إلا أن إصرار والده على ذهابه جعل يضطر للالتحاق، وفي هذه المرة تأخر أكثر من سبعة أشهر بسبب الحركات العسكرية في حرب الشمال، وكانت تردنا منه الرسائل، وعندما جاء بإجازة أخبرنا أحد الذين كان معه في الوحدة بأنه كان معتقلا بسبب اتهامه بالإدلاء بمعلومات إلى الأكراد عن طرق العتاد السرية، وموعد خروج القافلة مما جعل الكورد يهاجمون القافلة ويغنمون ما فيها من أسلحة وكان الطريق والموعد سري لا يعرف به إلا العاملين في القلم، ولأنه معروف بانتمائه للحزب الشيوعي فقد أعتقل بتهمة الإدلاء بمعلومات ومكث في الحبس أكثر من ستة أشهر وأطلق سراحه بعدها.

وبعد انتهاء إجازته التحق لوحدته وحدث انقلاب 8شباط الأسود1963 وكنت أخشى أن يأتي الينا بإجازة لأن الحرس القومي قد اعتقلوا كثيرا من رفاقه وأصدقائه، وقد أرسلت له توصية مع أحد جنود وحدته بعدم المجيء، وفعلا لم يأت ألينا طيلة حكم الحرس القومي، وكان الحرس القومي عندما يستفسر عنه ندعي أنه يدرس في بغداد ولا علم لنا بوجوده، وبعد انقلاب عارف جاء إلينا بإجازة طويلة وبعد انتهائها التحق بوحدته ليعود ألينا بعد أيام ويخبرنا بأنه قد نقل إلى مركز تدريب النجف بوساطة عمه الذي كان في منصب كبير.

ويبدوا أن قربه من مدينته جعله يعود إلى التنظيم فهرب من الجيش ورفض الالتحاق بوحدته رغم أنه كان يدرس في ثانوية النجف المسائية، وفي الصف المنتهي، وقد أمتحن نهاية السنة وهو هارب من الجيش فكان يعبر سياج المدرسة لأداء الامتحان لأن الانضباط العسكري والشرطة كانوا واقفين بباب المدرسة خوفا من حدوث مشاكل في المدرسة، وقد نجح فعلا في الدور الأول، ولكن بعد شهر أو أكثر من نهاية الامتحان، سمعت طرقا شديدا على الباب في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل فسألت من الطارق فقال أنا (يحيى) ولم يكن بين أقاربنا أو جيراننا أو أصدقائه من أسمه يحيى، فقلت له من هو يحيى، فقال لي (حجيه أني أبو الأمن عدنه شغل ويه أبنك) طلبت منه الانتظار لحين ارتداء عباءتي، وأيقظته من النوم وقلت له لقد جاءت الشرطة والأمن وأنت هارب من الجيش، فاهرب من باب البيت الخلفية حتى لا يجدوك ولكنه رفض الهروب قائلا أنهم سيعتقلون أبي أو أخوتي إذا هربت وأنا لست مجرما حتى أخاف منهم.

ثم خرج بنفسه وفتح الباب لهم وسلم عليهم كأنهم أصدقاؤه المقربون، وقاموا بالتفتيش بحثا عن المواد الجرمية ومن محاسن الصدف أنهم لم يفتحوا غرفة صغيرة كانت تستعمل مكتبة لأنها شبه ملحقة بدارنا الثانية الملاصقة لبيتنا، ولما لم يعثروا على شيء أخذوه معهم، وبعد خروجهم أخبرني أبني الصغير بأن في غرفة المكتبة الكثير من الأوراق والمناشير، وانه أخفاها دون علم أخيه في السقف الثانوي للغرفة، وعندما أخرجتها من السقف كانت كثيرة جدا وكان الصبح على وشك الانبلاج فأشعلت التنور بحجة عمل الخبز ورميتها لتكون طعما للنيران، خوفا من عودتهم ثانية كما يخيل لي.

 وبعد التاسعة صباحا بقليل خرجت من البيت لأستفسر من أصدقائه الذين لابد أن اعتقلوا معه، فوجدت أن الشرطة في تلك الليلة قد اعتقلت كثيرين من المدينة، وكان أولادي قد أصبحوا بعمر قادرين معه عن متابعة أخيهم ولكني كنت أخشى عليهم من الاعتقال، وقد علمت أنه أعتقل في سجن المدحتية وبعد ثلاثة أيام علمت أن أهالي المعتقلين قد سمحوا لهم بمواجهتهم، فتوجهت إلى المدحتية القريبة من مدينتنا، وركبت في سيارة متوجهة إليها وكان إلى جانب السائق شرطي بملابسه الرسمية، وكان السائق يعرف الغرض من ذهابي إلى المدحتية، فاخذ يتحدث معه حتى قاده إلى الحديث عن المعتقلين، ومما قال له أن بعضهم لا زال تحت التعذيب لأنهم لم يعترفوا لحد الآن، ومنهم معتقل من أهل القاسم قصير القامة ولكنه لم يعترف لحد الآن فعلمت أنه أبني.

وبعد الوصول إلى المدينة ذهبت لزيارة عمتي لأني علمت استحالة السماح لي بمواجهته إلا بعد انتهاء التحقيق، وعندما طرقت الباب ودخلت وجدت عمتي وبناتها باكيات مولولات فسألتهن عن السبب فقالت إن أبناءها معتقلون في أمن المدحتية، بتهمة الشيوعية، فشاركتها البكاء متصورة إني أتأسى على حالها حزينة على أبنائها، وبعد قليل قدمت لي الشاي وسألتني من أين سمعت بأنهم معتقلون وجئت، فأخبرتها أن ابني معتقل معهم منذ ثلاثة أيام.

بعد قليل جاء زوجها وأخبرهم بأنه سمحوا له بالدخول وهم بخير وسيخرجون قريبا، وعندما سألته عن أبني أخبرني بأنه لا يعرف عنه شيئا، وبعد أن خرجت ذهبت إلى دائرة الأمن وطلبت من الشرطي الذي يقف في الباب أن يسمح لي بالدخول لزيارة أبني المعتقل إلا أنه رفض ذلك فقلت له اذهب إلى يحيى -عرفت اسمه عندما طرق الباب وقال أنا يحيى - وقل له أن أم جواد تريد زيارة ولدها وعندما سمع الشرطي كلامي حسب للأمر حسابا آخر فطلب من أحد زملائه أخبار المفوض يحيى بالزيارة وبعد قليل جاء الشرطي وأدخلني إلى الضابط، سلمت عليه وقلت له أنا أم جواد وقد أتيت لرؤيته، فرحب بي وطلب مني الجلوس ولكني شكرته فقال لي لقد سفر إلى الحلة لأنه جندي هارب كما يدعي.

خرجت من المركز وعدت إلى أهلي وأنا في حيرة من أمري كيف اذهب إلى معسكر الحلة وأستفسر عنه، وبت تلك الليلة وأنا أضرب أخماس بأسداس لأني لا اعرف مكان المعسكر ولا كيفية الدخول، وفي الصباح ذهبت إلى الحلة في باص مصلحة نقل الركاب وعندما نزل الركاب في الكراج قررت أن اسأل عن كيفية الوصول للمعسكر فشاهدني أحد أقاربي العاملين في المصلحة، فجاء وسألني إلى أين قاصدة فأخبرته بالأمر، فقال انتظري دقيقة واحدة، وبعد قليل جاء واركبني في سيارة المصلحة وذهب إلى معسكر الحلة وأوقف السيارة قرب الباب الكبيرة ونزل إلى الجنود الذين في الباب وتكلم معهم ثم دخل إلى غرفة خرج بعدها وناداني فسرت معه إلى المعسكر ووصلنا إلى بناية يحيط بها الحراس فسألهم عن جندي هارب جيء به اليوم من المدحتية، فأخبروه أنه قد أرسل إلى وحدته في معسكر تدريب النجف، فجاء واخبرني بالأمر فطلبت منه إيصالي إلى الكراج لأتوجه إلى النجف، وكان الوقت ظهرا.

أوصلني إلى الكراج وركبت في السيارات المتوجهة إلى النجف وذهبت إلى بيت عمه هناك، وبت لديهم تلك الليلة دون أن أخبرهم بالغرض من مجيئي للنجف وقلت لهم أني جئت للزيارة، لأنهم كانوا ضد توجهاته السياسية، وفي الصباح توجهت إلى المعسكر وسمح لي بالدخول عليه فوجدته مع المساجين وعندما شاهدني تأثر كثيرا وقال لي لقد أتعبتك معي، فقلت له هذه هي القسمة، والمقدر ليس منه مهرب، وأعطيته الملابس التي جلبتها معي وبعض النقود.

وكنت أزوره بين فترة وأخرى، ومكث في السجن أربعة أشهر وعندما جاءت محاكمته بتهمة الهروب توسط له أحد أقاربنا من الضباط لدى آمر المحكمة العميد يوسف عبد الحسين؟ من أهالي الحلة، فحكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن أربعة أشهر وهي مدة توقيفه، فأطلق سراحه وبعد ذلك بشهرين تسرح من الخدمة العسكرية لإكماله المدة المقررة، وعاد إلى مدينته ليواصل النضال من جديد.

وقد توالت الاعتقالات مرة بعد أخرى وكان أخوته قد أصبحوا بعمر يستطيعون به متابعته فخف عني التعب بعض الشيء ولكن الآلام التي عانيتها جراء ذلك لا تنسى أبدا.

وبعد مجيء البعثيين للسلطة سنة 1968 وصدور قرار بإطلاق سراح السجناء السياسيين وإعادتهم إلى وظائفهم وإيقاف المحاكم بحقهم عن التهم السابقة، أستمر المسلسل ذاته فما أن يلصق منشورا أو يحدث أي نشاط سياسي حتى يكون أول المعتقلين، وقد تمكنا من أيجاد عمل له بواسطة أحد أقاربنا، وقد حدث هدوء نسبي في تلك الأيام وخفت مطاردة الشيوعيين، وعندما أبرمت اتفاقية الجبهة مارس عمله العلني وقد أنتقل إلى الحلة وتزوج وأصبح له كيان قائم بذاته، ولكن بعد انهيار الجبهة وتمزيق منظمات الحزب أضطر لترك العمل السياسي وأنصرف لإعالة أسرته، ولكن لم يتخلص من مضايقات البعثيين، وظل ينظر إليه على أنه معاد لهم حتى انهيار النظام، رغم علمهم بتركه العمل السياسي.