اخر الاخبار

كان انقلاب ١١ أيلول عام ١٩٧٣ في شيلي مصحوبا بثورة اقتصادية، قادها باحثون ينتمون إلى المدرسة النيوليبرالية، والذين احتلوا مناصب صنع القرارات الرئيسية منذ الأوقات الأولى للديكتاتورية.

لم تكن الولايات المتحدة، كما نعلم، غريبة عن الانقلاب العسكري الذي حدث في ١١ سبتمبر/ أيلول ١٩٧٣، والذي أدى إلى وفاة الرئيس الليندي وتأسيس ديكتاتورية الجنرال بينوشيه. كما أنها ليست غريبة على السياسات النيوليبرالية التي تم تنفيذها خلال فترة الدكتاتورية من قبل الاقتصاديين الشيليين المدربين في قسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو الملقبين بفتيان شيكاغو Chicago Boys (شيكاغو بويز).

كانت البداية في عام ١٩٥٦، مع توقيع اتفاقية تعاون بين الجامعة الكاثوليكية في تشيلي وكلية الاقتصاد بجامعة شيكاغو التي كانت بمثابة معقل لأقلية صغيرة من الليبراليين الجدد بقيادة مجموعة من الذين سيكونون مستقبلا من الفائزين بجائزة نوبل والمناضلين ضد الهيمنة الكنزية لصالح (العلم الاقتصادي السليم).

وهكذا تم إرسال أول مجموعة من الطلاب إلى شيكاغو وعادوا إلى شيلي في عام ١٩٥٨. وبعد ان أصبحوا هم أنفسهم في الجامعة الكاثوليكية، قاموا بتكوين جيل ثان من الاقتصاديين. وفي ستينيات القرن العشرين، نشط تجمعهم حول شخصيتهم الرئيسية، سيرجيو دي كاسترو بمهاجمة النسخة الأمريكية اللاتينية للكنزية التي سادت شيلي منذ عام ١٩٣٨.

وضمنت هذه السياسة الاقتصادية الكنزية سيطرة الدولة على التجارة الخارجية وعلى القطاعات التي كانت تعتبر استراتيجية، فضلا عن حماية الصناعات الوطنية الهادفة إلى تمكين الإنتاج المحلي من تعويض الاستيرادات. ومنذ عام ١٩٤٨ قدمت اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية التابعة للأمم المتحدة الدعم النظري لهذه السياسة والتي أطلقت عليها تسمية «البنوية» مؤكدة ايضا على الحاجة إلى الإصلاح الزراعي.

واتبعت حكومة ادوارد فراي (١٩٦٤-١٩٧٠) الديمقراطية المسيحية هذا البرنامج في نفس الوقت الذي قامت فيه بتأميم مناجم النحاس جزئيا، وهو المنتج الرئيسي في شيلي. وتعمقت هذه السياسة في عهد رئاسة الاشتراكي سلفادور الليندي (١٩٧٠-١٩٧٣) الذي اتهمه اليمين برمته وأرباب العمل بتمهيد الطريق للشيوعية.

حينئذ تزايدت انتقادات فريق شيكاغو بويز. وفي بداية عام ١٩٧٣، اتصل كبار المسؤولين في سلاح البحرية - التي كانت في قلب التحضير للانقلاب - بالشخصية الأكثر سياسية في شيكاغو بويز، إميليو سان فوينتس وطلبوا منه إعداد وبسرعة برنامج اقتصادي في حالة سقوط الليندي. وفي نهاية شهر أيار كان قد تم تحضير برنامج كامل باسم إل لادريلو (الصخرة) مكونا من ٥٠٠ صفحة أعده أحد عشر خبيرا من بينهم تسعة من فتيان شيكاغو.

إن التدابير المقترحة في إل لادريانو تسير جميعها في اتجاه الحد بشكل كبير من دور الدولة في المسائل الاقتصادية والاجتماعية. وكانت محسوبة بهدف الحصول على دعم اليمين الديمقراطي المسيحي والبقاء مقبولة لدى الدوائر المحافظة. ولنأخذ مثالا واحدا فقط، حيث سيتم، بموجب هذه التدابير، تخفيض الضرائب على الاستيرادات بمقدار ٣٠ بالمائة.

شيكاغو بويز والديكتاتورية العسكرية

وبالفعل، فقد أصبح برنامج إل لادريلو هو الحجر الاساس في البناء النيوليبرالي والذي يطلق اليد لشباب شيكاغو في الحياة السياسية والاقتصادية. فإذا كانوا دائما ينكرون، مع كل الأدلة الواضحة، معرفتهم بالتخطيط للانقلاب العسكري وبوحشية القمع، منذ الاطاحة بالرئيس سلفادور الليندي، فإن برنامجهم كان في أيدي قادة المجلس العسكري.

في ١٤ أيلول، عين الادميرال ميرينو، المسؤول عن اللجنة الاقتصادية، سيرجيو دي كاسترو مستشارا للجنرال جونزاليس، وزير الاقتصاد الجديد. وتم تعيين روبرت كيلي، وهو ضابط سابق في البحرية ومرتبط ارتباطا وثيقا بشيكاغو بويز، على رأس مكتب التخطيط الوطني الذي، على عكس مهامه، سيقوم بتنسيق العودة إلى السوق وسحب دور الدولة من الاقتصاد.

ومع ذلك، فقد واجه أنصار الإجراءات الليبرالية الراديكالية، ولمدة عام ونصف، جزءا من الجيش الذي بقي متمسكا في نهج التنمية القومية ودور الدولة وسياسة الحمائية الاقتصادية. ولهذا السبب اضطرت الحكومة ان تختار طريق التحول التدريجي إلى الليبرالية، فقد ظلت عمليات الخصخصة محدودة وكذلك بقي خفض الانفاق الحكومي محدودا.  لكن التضخم، الذي بقي عند مستوى مرتفع جدا، زاد من وزن الحجج لصالح إجراء تخفيض جذري في الإنفاق العام. وكل ذلك كان في سياق دولي غير مؤات مع انخفاض أسعار النحاس وارتفاع أسعار النفط، مما سيؤدي إلى تفاقم العجز الخارجي.  في ٢١ آذار ١٩٧٥، استقبل اوغستو بينوشيه ميلتون فريدمان الذي أقنعه بحججه وضاعف بذلك من حجج البويز. وفي ١٠ ابريل ١٩٧٥، عهدت إدارة التنسيق الاقتصادي إلى جورجي كاواس، وهو ديمقراطي مسيحي مقرب من عصابة شيكاغو، وسيرجيو دي كاسترو في وزارة الاقتصاد، والفارو باردون وبابلو باراهونا في البنك المركزي، وخوان كارلوس مينديس في وزارة المالية والمسؤول عن الميزانية. وهكذا أصبح فريق شيكاغو بويز يشغل جميع المناصب التي تسمح له بتطبيق السياسة الراديكالية التي يدافع عنها.

١٩٧٥- ١٩٨٠: بداية الثورة النيوليبرالية

ويذهب برنامجهم إلى ما هو أبعد من مجرد تحقيق الاستقرار على المدى القصير. وهو يتألف من إسناد التوازن الاقتصادي والاجتماعي إلى حرية السوق. وتعطى الأولوية لخفض العجز العام من خلال خصخصة أغلب الشركات - باستثناء تلك التي تعتبر «استراتيجية»- والحد من الإنفاق الاجتماعي - باستثناء تلك المرتبطة بمكافحة الفقر المدقع. وقد فتح قرار لامركزية الخدمات التعليمية والصحية الطريق أمام خصخصتها.

وأدى الانفتاح على التجارة الخارجية إلى خفض الرسوم الجمركية إلى ١٠بالمائة على أمل أن يفيد هذا التوجه الليبرالي أيضا الصادرات - النحاس، والمنتجات الزراعية، وصيد الاسماك حيث من المفترض أن تتمتع شيلي، في هذه المجالات، بميزة الأفضلية النسبية - باعتبار وجهات النظر هذه هي رأس الحربة الجديد في انطلاق التنمية. والتوجه الليبرالي شمل أيضا.

ولكن النظام بدأ يتعثر. وفي عام ١٩٨٢، تعرض الاقتصاد الذي كان يعتمد بشكل مفرط على سوق الرأسمال الدولي، إلى الاختلال الشديد بسبب الارتفاع المفاجئ للدولار الذي خططت له الولايات المتحدة وعودة رؤوس الأموال اليها من جديد مما أدى إلى أزمة بنكية خطيرة وأزمة في سعر الصرف. وفي ذلك العام، انخفض الناتج المحلي الإجمالي لشيلي بنسبة ١٤بالمائة والاستثمار بنسبة ٣٠بالمائة. وانخفضت الاحتياطيات الدولية بنسبة ٤٠ بالمائة مقارنة بالعام السابق. وقفزت البطالة إلى ١٩ بالمائة وحتى إلى ٢٦ بالمائة عام ١٩٨٣.

وجاء تعيين حكومة جديدة لإطفاء الحريق وبمهمات: عودة الدولة بقوة إلى الاقتصاد، وتأميم البنوك المفلسة والشركات المدينة. وتم تخفيض قيمة البيزو بنسبة ٣٠ بالمائة، خلافا لتوصيات سيرجيو دي كاسترو الذي أضطر إلى الاستقالة من منصبه كوزير للمالية.

١٩٨٥- ١٩٨٩: فريق شيكاغو بويز يعمل مع صندوق النقد الدولي

بمجرد انتهاء المرحلة الأكثر خطورة من الأزمة المالية، فان السلطات العسكرية، بدلا من أن تنبذ افكارها، نظرت إلى الأمر مجرد حادث عابر أضعف الاقتصاد الذي هو ما زال في مرحلته الانتقالية. ومع وجود الجيل الثاني من شباب شيكاغو، المتحمس، على رأس الاقتصاد، استؤنفت عمليات الخصخصة وتعديل أسعار الصرف واستبدلت الدولة ديونها ببيع أسهم في الشركات الحكومية تخص مجالات الاتصالات والطاقة والحديد والصلب والنقل الجوي، بأسعار منخفضة.

وفي عام ١٩٨٨، وبعد التنصل من استفتاء كان يعتقد انه سيفوز به، فرض بينوشيه قيادته للجيش لمدة ثماني سنوات وأجبر أيضا، بدعم مالي من صندوق النقد الدولي، على الحفاظ على الاقتصاد الليبرالي وتعزز ذلك بسقوط النموذج السوفييتي عام ١٩٨٩.

ما هي النتيجة الاقتصادية لسنوات بينوشيه بعد نقل السلطة إلى المدنيين تحت السيطرة العسكرية في عام ١٩٩٠؟ ما كان من الممكن تنفيذ السياسة الاقتصادية الليبرالية إلا على حساب الانتهاك المستمر لحقوق الانسان، فقد وقع ٤٠ ألف شخص ضحايا للقمع، وذهب ٢٥٠ ألف شخص إلى المنفى ضحايا للقمع.

ـــــــــــــــــــــــــــ

ترجمة د. محسن القزويني

عرض مقالات: