اخر الاخبار

 تحت هذا العنوان أصدرت البروفيسورة الهولندية فرانسيسكا دي هان كتابا مع مجموعة من الأكاديميات والباحثات المتخصصات في مجال التاريخ والعلوم الاجتماعية والباحثات في مجال دراسات الجندر من مختلف دول العالم.

 تقول البروفيسورة دي هان في مقدمة الكتاب، وهي مؤرخة وكاتبة وباحثة في مجال الحركات النسائية في العالم واستاذة فخرية في جامعة أوربا المركزية في النمسا، إنها بعد البحوث التي قامت بها وجدت أن هناك نساء لعبن أدوارا قيادية متميزة في الحركة النسائية الوطنية والعالمية. نساء ناضلن من أجل الدفاع عن الاستقلال الوطني والحريات الديمقراطية، والقضاء على الفاشية وحماية السلام. من أجل الدفاع عن الحقوق السياسية والاقتصادية والمدنية والاجتماعية للنساء وتوفير بيئة آمنة لنمو الأطفال والأجيال القادمة. هؤلاء النسوة لم يُذكر عنهم إلاّ النزر اليسير. هنا وجِدت الحاجة للتعريف بسيرهن الذاتية ووضعها بسياقها التاريخي.

وهكذا تشكل فريق العمل الذي بحث وجمع معلومات من مختلف المعاهد والاكاديميات العلمية حول العالم، عن سيرة حياة 30 شخصية نسائية شيوعية، ومن بينهن الدكتورة نزيهة الدليمي عن الشرق الأوسط.

 نزيهة الدليمي والنضال ضد االكولونيالية في العراق

في مقدمة الفصل تفيد الكاتبة، بأن نزيهة الدليمي طبيبة حاملة عضوية الحزب الشيوعي منذ عام 1948، شخصية قيادية في النضال الوطني ضد الملكية الهاشمية المدعومة من الاستعمار البريطاني، للفترة 1921 وحتى 1958. كانت رئيسة لأكبر وأنشط المنظمات النسائية في العراق، وهي رابطة الدفاع عن حقوق المرأة 1952. أصبحت أول وزيرة في العراق عام 1959 وبنفس الوقت أول وزيرة في العالم العربي.

وترى إن نشاطات وكتابات الدليمي في سياقها التاريخي الواسع وفي تحديها ونقدها للنظام وفي كشفها للعواقب الوخيمة والطويلة الأمد لسياسة الدولة الهاشمية المدعومة من بريطانيا في تهميش وتجهيل المرأة العراقية، كانت هي المحرك الفعال لتبني قوانين جديدة لصالح المرأة ومساواتها من قبل قيادة الثورة بعد 1958.

تناولت الكاتبة حياة الدليمي، الولادة والنشأة الأسرية ومن ثم المدرسة والبيئة التي تربت بها، كلها عوامل ساعدتها على بلورة أفكارها وتوجهاتها الوطنية وعلى الانطلاق في الانشطة الاجتماعية وبعد ذلك السياسية. وكما تذكر الدليمي في أحد اللقاءات معها، بأنها وفي مرحلة دراستها الثانوية، قد هتفت بسقوط الاستعمار بدافع من حبها لوطنها دون أن تعي إن ذلك فعلا سياسيا.

عاصرت الدليمي تطورات سياسية بالغة الأهمية في تشكيل العراق الحديث، من دخول العراق باستقلال شكلي إلى عصبة الأمم 1932، إلى المعاهدة البريطانية – العراقية 1930 التي أنهت الانتداب البريطاني واصبحت نافذة المفعول حال دخول العراق إلى عصبة الأمم. وبها أخضعت الدولة الناشئة إلى سيطرتها ومنحت الشركات البريطانية السيطرة على كل الموارد والمفاصل الأقتصادية في البلد، مما زاد من المعارضة الواسعة للقوى الوطنية المناهضة للاستعمار الرافضة لهذه المعاهدة الجائرة لأنها تصب في خدمة الأغراض الاستعمارية البريطانية.

وعند دخولها كلية الطب 1941، شاركت في الحلقات والندوات السياسية والفعاليات الوطنية، حيث لعب الطلبة دورا محركا مهما في النضال ضد حكومة نوري السعيد وبنفس الوقت شدّها بقوة الفعل السياسي للنساء الكادحات، حيث خرجت الخبازات أثناء الحرب العالمية الثانية بمظاهرة مطالبات بزيادة حصة الطحين والتي تحولت بعد ذلك إلى احتجاج جماهيري واسعاضد الحكومة.

أثناء دراستها الطب تعرفت بشكل أكبر على المعاناة الحقيقية للشعب من أمراض و جهل وتخلف وفقر مدقع والتي سببها الاستعمار والرجعية. كانت تهتم كثيرا بمعاناة النساء الكادحات والمهمشات، وشاركت بالكثير من الانشطة النسوية الهادفة إلى رفع وعي المرأة. هذا دفعها للمشاركة بحملات محو الأمية وترجمة المقالات التي تخدم قضايا المرأة أثناء العطل الصيفية.

وفي عام 1943 دُعيت لحضور اجتماع “جمعية مكافحة النازية والفاشية”، وكانت هي أول منظمة نسائية ذات طابع سياسي. وكما كتبت نزيهة الدليمي عن هذا الاجتماع، بأنه فتح عينها على مواضيع مهمة سياسية تهم المرأة والمجتمع. وفي عام 1947 ومع تزايد الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وجّهت ضربة قوية لتنظيمات الجناح  اليساري واعتقلت كوادره النشطة وحُظر العمل في التنظيمات النسائية وتوقف عمل في مجلة تحرير المرأة. و هذا لم يمنع النساء، ومنهم نزيهة، من المشاركة الفاعلة في وثبة كانون 1948. وتعرضت على إثرها إلى مراقبة تحركاتها من قبل الحكومة وإلى نقل عملها كطبيبة إلى مدن بعيدة عن بغداد. وفي هذه الفترة وجدت في أفكار ومبادئ الحزب الشيوعي العراقي ما يستجيب لتطلعاتها وأفكارها وأصبحت منذ عام 1948 عضوا فيه.

في عام 1950 انضمت الدليمي لمشروع منظمة الصحة العالمية للقضاء على مرض البجل في العراق. تركزعمل المشروع على المناطق الريفية على ضفاف نهري دجلة والفرات، من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، إضافة إلى تجمعات البدو في منطقة الصحراء الغربية وكذلك مناطق الأهوار. وكتبت الدليمي عن تجربتها هذه، بأنها كانت فرصة ذهبية مُنحت لها للتعرف على أوضاع النساء من مختلف الطبقات والطوائف وظروف معيشتهن، حيث انتشار الفقر والجهل والأمية والأمراض ناهيك عن البطالة وخاصة في الارياف. 

جمعت تجربتها ومعايشتها في كتاب يحمل عنوان “المرأة العراقية” صدرعام 1952. و تُرجح الكاتبة أن يكون هذا الكتاب أول نقد شامل لوضع المرأة في المجتمع يُكتب من قبل امرأة في العراق الحديث. حيث انتقدت فيه النظام القانوني الذي وضعه البريطانيون للحكومة العراقية والذي اعتمد على تقوية نفوذ رؤساء العشائر والاقطاع ورجال الدين وبعض المتنورين المؤيدين لسياستها، كحلفاء موثوق بهم منحتهم سلطة قانونية واقتصادية واجتماعية وسياسية، مما كان له تداعيات خطيرة على وضع المرأة حيث تُركت وحدها من مختلف الفئات الاجتماعية خارج حماية الدولة في مجال الأحوال الشخصية.

وفي نهاية كتابها توصلت إلى استنتاج وضعت فيه شكلا جديدا لنضال المرأة تقول فيه “لا يمكن للمرأة أن تحصل على حريتها و كرامتها وتأمين الحاجات الاساسية لمعيشتها إلاّ بالسير سوية مع كل القوى المستَغلة والمحرومة في المجتمع، الطريق طويل وصعب.... تحرر المرأة لا يتم إلاّ بتحررها الاقتصادي من خلال العمل وحصول الفلاحات على قطعة أرض يستطعن زراعتها والعيش منها... إن الفقر والبؤس والجهل والبطالة الذي تعاني منه النساء والرجال، وخاصة في المناطق الريفية، لا يمكن القضاء عليه إلاّ بالتحرر من القوى الأجنبية التي تستغل موارده الطبيعية وتغرق أسواقه بالبضائع الأجنبية. القضاء على البطالة بحاجة إلى بناء معامل ومصانع وطنية واقامة نظام وطني يكفل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للرجال والنساء سواسية.”

في كل نشاطاتها وكتاباتها لعبت د. نزيهة دورا فعالا في وضع قضية المرأة في مركز النضال من أجل التحرر الوطني، كما في كتابات مؤسس الحزب الشيوعي العراقي (فهد). حيث ربطت بين معاناة المرأة من كل الطبقات والفئات الاجتماعية في الريف والمدينة، ومعاناة الشعب العراقي، وأن العدو المشترك هو من يمنع تحرر المرأة وتحرر الوطن.

الوطن اُنتهكت سيادته من قبل الاستعمار الذي عزز من قوته ووجوده بتحالفه مع القوى الرجعية وفرض الأعراف المتخلفة والتي ضحيتها بالدرجة الأولى هن النساء، لذا عليهن النضال من أجل هدفهن في التحرر وفي تحرير المجتمع بنفس الوقت. كي ننهض بالمجتمع، نحن بحاجة إلى تغييرات جذرية وليست إصلاحات سطحية لا تمس الأسباب الحقيقية للمعاناة.

وفي بداية الخمسينيات بذلت محاولات مع الناشطات الأخريات لإعادة نشاط جمعية المرأة، وبذلت بعد ذلك الجهود لتشكيل منظمة نسائية جديدة ذات توجه يساري. ومنعت الحكومة إجازة هذه المنظمة، مما دفع بهذه النسوة من شيوعيات وغير شيوعيات للعمل بشكل سري. وهكذا ولدت “رابطة الدفاع عن حقوق المرأة” برئاسة نزيهة الدليمي في 10 آذار 1952. أهدافها: التحرر الوطني، الديمقراطية، السلام العالمي وكذلك حقوق المرأة والطفل. وكانت الرابطيات مؤمنات بأن تحرير المرأة يأتي بعد تحرر المجتمع من الإمبريالية والقوى الرجعية، وأن القضاء على تهميش المرأة سينتهي مع النظام السياسي والاقتصدي والاجتماعي الجديد الداعم لقضاياها.

ترأست الدليمي وفد رابطة المرأة العراقية إلى مؤتمر الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي عام 1953 في كوبنهاغن، وأصبحت عضوا فيه ومن ثم عضوا في مكتبه. وكذلك كانت عضوا نشطا في حركة أنصار السلام العراقية، ومن ثم عضوا في مجلس السلم العالمي. 

نشطت الدليمي وعضوات الرابطة في تعبئة النساء للمشاركة في الحركات الاحتجاجية ضد الحكومة وضد الاستعمار البريطاني، مطالبات بالحريات الديمقراطية والغاء المعاهدة الأنكلو-عراقية لعام 1933 وطرد القوات الاجنبية من العراق وإدانة حلف بغداد الذي تأسس عام 1955، إضافة الى عملها في الدفاع عن حقوق المرأة وحل مشاكلها.

إن الدور الذي لعبته الدليمي مع الناشطات في رابطة المرأة العراقية في قيادة العمل عبر نضال عنيد ورؤى واضحة للتحرر من الاستعمار وبناء دولة تلغي القوانين الرجعية والمجحفة بحق النساء وتضمن الحقوق المتساوية للمرأة والرجل أمام القانون وتعزيز مكانة المرأة في العائلة، تحقق بعد ثورة 14 تموز، مما زاد من وعي المرأة ومشاركتها الجماهيرية الواسعة بعد ثورة 14 تموز.

 قانون الأحوال الشخصية

وقد شاركت مع مجموعة من الأكاديميين المتخصصين ومحامين ورجال دين متنورين في وضع مسودة أول قانون أحوال شخصية تقدمي في ذلك الوقت، حتى على صعيد الدول المجاورة. ولكن واجهت تنفيذ هذا القانون عقبات كثيرة، منها أنه لم توضع تشريعات للتعامل مع الأعراف والممارسات العشائرية، ولم تصدر أحكام مشددة في معاقبة مرتكبي جرائم الشرف المنتشرة في الريف، وبقي الاصلاح الزراعي محدود النتائج، ولم تحصل المرأة في الريف على تحررها الاقتصادي.

ورغم أن قانون الأحوال الشخصية لم يكن متكاملا وتشوبه الثغرات ولم يعر الاهتمام لتغييرها، إلاّ أنه رأى النور بملامح تحمل نضالات الدليمي ورفيقاتها خلال الحكم الملكي. هذا القانون منح المرأة حقوقها السياسية كاملة منذ عام 1959، وكل الدساتير اللاحقة إحتفظت لها بهذه الحقوق، رغم ما أجريت عليه من تعديلات تتناسب والمصالح القائمة. ومنذ صعود البعث للحكم 1963 الغيت فقرة المساواة بالميراث، إلاّ أن أحكامه بقيت سارية المفعول.

حتى عام 2003 كل الرؤساء الذين حكموا العراق، وحتى صدام حسين عندما تقربوا من شيوخ العشائر والقوى الدينية، إلاّ أنهم جميعا تجنبوا إلغاء قانون الأحوال الشخصية لعام 1959.

في زمن الديكتاتور صدام حسين، غادرت نزيهة الدليمي قسرا وطنها الذي قدمت له الكثير، وتوفيت عام 2007 في المانيا.

وبقيت ناشطة في الحزب الشيوعي العراقي ورابطة المرأة العراقية ومع القوى الأخرى في الحركة الوطنية في النضال ضد النظام الديكتاتوري في المنفى. وفي زمن صدام ألغيت أعمالها وافكارها من صفحات تاريخ العراق من قبل المؤرخين في حزب البعث الذي حكم البلاد حتى عام 2003. وبعد وفاتها وعدت الجهات الرسمية 2009 ببناء تمثال تخليدا لانجازاتها كأول وزيرة، ولم ينفذ المشروع. ولكنها ستبقى في ذاكرة العراقيين.

 الخلاصة

بعد غزو أمريكا للعراق 2003 المرفق بوعود تحرير العراق وجعله بلدا حرا ديمقراطيا يضمن حقوق المرأة العراقية، وضحت الصورة للناشطات بعد فترة قصيرة بأن التاريخ يعيد نفسه. تحت الاحتلال اُبعدت النساء عن المشاركة في العملية السياسية، وخرج قانون الأحوال الشخصية من يد الدولة، وبُعث قانون العشائر من جديد. الناشطات من أجل حقوق المرأة يتهمن بجلب أفكار غربية لا تتناسب مع التقاليد والدين، أو بأنهن يرغبن بعودة سياسات صدام العلمانية، وتجري محاولات لإلغاء شرعية عملهن.

وتنشط النساء اليوم وهن مستفيدات من خبرة الدليمي في نضالها ضد الاستعمار والحكومة الملكية وسياستها التهميشية للنساء واخضاعهن للقوانين القبلية والعشائرية.

وجدت الناشطات أنفسهن، في عراق ما بعد الغزو، يناضلن ليس فقط ضد عودة الخطاب المهين واعتبارهن مواطنات درجة ثانية، بل في الدفاع عن أبسط حقوقهن كنساء. وفي هذا المجال قدمت الدليمي الكثير من الخبر مما هو مفيد وداعم لعملهن حاليا.

عرض مقالات: