اخر الاخبار

قابلت في مسيرتي الإعلامية الممتدة على مساحة أكثر من عقدين في تقديم وإعداد البرامج الثقافية شخصيات كثيرة، بعضها ترك انطباعا لم تستطع الأيام محوه، والبعض الآخر خلّف وراءه خيبة ذكرتني بالمثل العربي القديم «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه».

ومن هؤلاء الذين قابلتهم الروائية والناقدة المصرية الراحلة رضوى عاشور، وحدث لي معها موقف واحد لخص لي ما انطوت عليه نفسها الكبيرة من تواضع وبساطة كانا سمة ميزتها. وقد عرفت رضوى عاشور بادئ الأمر من خلال روايتها المذهلة «ثلاثية غرناطة» وكانت مقررة علينا في مرحلة البكالوريوس في جامعة البحرين، وحين ذهبت إلى القاهرة لإعداد رسالتي للماجستير كان اسم رضوى ملء السمع يتردد على ألسنة أساتذتي، ويشاركني الشغف بكتاباتها كثير من المعجبين، من طلبة تتلمذوا على يديها، أو قراء يتابعون ما تنشر. وكان إعجابي بها يتجاوز الجانب الثقافي إلى الجانب النضالي عندها، وهي التي حيل بينها وبين زوجها الشاعر الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي فمُنع من زيارة مصر. وبقيت رضوى ثابتة على مبادئها، مناصرة لقضايا التحرر، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

وبعد سنوات من ذلك انتقلتُ إلى دبي مذيعة أخبار، ثم كان برنامج «صواري» أول تجربة لي مع البرامج الثقافية سنة 2001، أستضيف فيه المبدعين والمبدعات، وكان يومها يعرض مباشرة من متحف دبي الوطني. ومن أوائل من فكرت في استضافتهم لبرنامجي رضوى عاشور، فرحبت بالفكرة ووافقت على الحضور، ويومها حدث لي الموقف الذي سأرويه وكشف لي من أي طين نقي خلقت رضوى، وأنها من الأشخاص الذين تطابق شخصيتهم كتاباتهم، فلا يعيشون ازدواجية التنظير والممارسة، بل هم ومواقفهم توأم سيامي لا ينفصل.

بعدما وافقت رضوى عاشور على الحضور سألتني في أي فندق سوف تنزل فقلت لها: فندق «المتروبوليتان بالاس» وكان يومها في دبي فندقان يحملان الاسم نفسه، أحدهما قديم مشهور، لكنه بعيد في شارع الشيخ زايد وكانت دبي في ذلك الوقت تنتهي عند أطراف هذا الشارع، وآخر جديد أقرب إلى المطار من سابقه يقع في شارع المكتوم وفيه كنا ننزل ضيوفنا.

وفي تلك الفترة كنت انتظر الضيوف لألتقيهم وأستلم منهم موادّ تفيدني في الإعداد كالصور وبعض الوثائق من الأرشيف الشخصي وقصاصات الجرائد قبل زمن «الفلاشة» والبريد الإلكتروني، فأرسل تلفزيون دبي كالعادة إلى المطار موظفا في العلاقات العامة لاستقبالها، وعلى عكس الممثلين والمطربين الذين كانوا معروفين، كان الموظف يحمل يافطة باسم الضيف إذا كان كاتبا، فمهما بلغت شهرة الكاتب فهي شهرة ورقية لحروفه لا لشخصه يحتاج دوما إلى ما يثبت أنه هو. ولسبب ما أجهله لم تلتق رضوى عاشور حين وصلت إلى المطار بالموظف الذي ينتظرها، وطال انتظارنا لها، وكنت بين الفينة والأخرى أسأل قسم العلاقات العامة بالتلفزيون عما إذا كانت الضيفة قد وصلت، وأتأكد منهم إن كانوا قد أرسلوا موظفا لاستقبالها، فالمفروض أن يكون ركاب الدرجة الأولى أول الخارجين. وتملكني القلق حين كان يصلني الجواب بالسلب، قلق مزدوج أوله أين اختفت الضيفة؟ وثانيه عن مصير البرنامج فقد كان يبث مباشرة، وبعد انتظار أحسسته طويلا جدّا رن هاتفي مظهرا على شاشته رقما أرضيا محليا، وما أن فتحته حتى وصلني صوتها دافئا ودودا: «بروين صباح الخير»! وكنت متلهفة لسماع ما حدث لها، فأخبرتني أنها حين خرجت من المطار لم تجد أحدا في انتظارها، فمكثت بعض الوقت ثم استقلت سيارة أجرة إلى الفندق، وحين لم تجد حجزا باسمها دفعت ببطاقتها المصرفية. واتضحت القصة لي حين انتبهت إلى أنها في الفندق الآخر الذي يحمل الاسم نفسه في شارع الشيخ زايد. اعتذرت منها عن الالتباس الذي حصل، وسارعت إلى الفندق للقائها، وما أن رأيتها حتى أسمعتها إحدى جملها التي ذهبت مذهب الأمثال «أبدو هشّة كورقة خريف أسلمت نفسها للهواء، قبل أن تستقر على الأرض، كيف ناطحتُ إذن» فضحكت، وبعد أن ثبتُّ الحجز في الفندق الذي اختارته الأقدار لها امتد بيننا حوار طويل عن الكتابة والكتاب كأننا نستأنف حديثا بدأناه من قبل.

وعلى مائدة عشاء في مطعم إيطالي تحدثنا مطولا عن «ثلاثية غرناطة» فقد كانت الرواية يومذاك حديث الصحف والمثقفين، وروت لي عن طفولتها، كيف ولدت في بيت يطل على كوبري عباس حيث كان مسرحا للمظاهرات ضد الإنكليز، وكيف ربطت هذه الإشارةَ باحتجاجها على الظلم وعلى الاستعمار، وتضامنها مع القضايا الكبرى، حتى أن ما كان يجمعها بمريد البرغوثي يتجاوز الرابطة الزوجية، إلى قضايا أكبر تتعلق بمصير أمة ومسيرة نضال. وازداد اعجابي بشخصيتها الدافئة المتواضعة بعد حادثة المطار، ففي يوم التصوير حين سألتها عن أي طلبات لها للماكياج وتصفيف الشعر، أجابتني ببساطة آسرة: «أبدا أبدا يا بروين، أنا أحط كحل وكحلي معايا وأمشط شعري بنفسي» فذهلت من هذه المرأة غير المتطلبة البسيطة والعملية في آن واحد، وامتد لطفها ليشمل كل فريق العمل، وما زلت أذكر أنها أخذت صورا مع السائق، وكان عندنا كشكول أشبه بالدفتر الشرفي يسجل فيه الضيوف انطباعاتهم فكتبت فيه شكرا جماعيا للفريق كله. وكانت تصرفاتها العفوية وتواضعها اللافت في أي مكان تحل فيه يستدعي إلى ذهني نقيضه من ضيوف يتذمرون من أدنى شيء، ويهددون بالانسحاب إن لم يوفر لهم التلفزيون مرافقا، أو لم يعجبهم الماكياج.

لم التق رضوى عقدا كاملا إلى أن فازت بجائزة العويس الثقافية عن القصة والرواية والمسرحية سنة 2011، وكنت أقدم سنويا حفل الجائزة، فقدمتها بمحبة غامرة مستحضرة ما تتميز به من علم وإبداع، وفوق ذلك كله إنسانية طافحة، وحين نزلت عن المنصة قبّلتني وشكرتني، لكن لم تكن لنا فرصة لحديث مطول.

وتشاء الأقدار أن تتوفى رضوى عاشور بعد ذلك بسنوات ثلاث، وأجتمع مع زوجها المرحوم مريد البرغوثي محكمين في جائزة البوكر، حيث كنت في عضوية اللجنة التي كان هو رئيسها، وفي أول لقاء بيننا في مطار اسطنبول حين عقدنا اجتماع إعلان القائمة الطويلة للجائزة، وكان ذلك بعد وفاتها بأشهر قليلة، ذكرناها، ولا يمكن أن تتحدث مع مريد البرغوثي حديثا دون أن تكون رضوى حاضرة فيه، أخبرته عن لقائي بها في جائزة العويس فقال لي: «على فكرة رضوى قالت لي: البتّ بروين قدّمتني بشكل حلو جدّا جدّا» فسرني أنها رضيت عن تقديمي لها، ولم تفاجئني منها قدرتها على إسعاد الآخرين حية وميتة.

أكثر ما لفتني في رضوى عاشور بغض النظر عن قيمتها الإبداعية والأكاديمية، الجانب الإنساني فيها وتواضع الشخص الواثق من نفسه الممتلئ. لم تكن النجومية والأضواء تعنيها كثيرا، ففي علاقتها مع طلبتها والناس من حولها كانت شخصا عملانيا ينطبق عليه وصف المثقف العضوي عند غرامشي. وما زلت إلى الآن كلما أتعرض لموقف مع ضيف من ضيوف برنامجي، أو أصادف مشكلة حول الإقامة أو الاستقبال، وليس نادرا أن يحدث ذلك مع بعض من تضخمت ذواتهم، تقفز إلى ذهني حكاية رضوى والمطار، ودرس التفهم والبساطة والتصرف العلمي الذي نحتاج أن نتعلمه من امرأة لا أجد ما أصفها به سوى أن أقول بأنني لم أر أخفّ على قلبي من رضوى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“القدس العربي” – 10 أيلول 2023

عرض مقالات: