اخر الاخبار

أشعر بحزن بالغ وأسى عميق لغياب الشاعر والمناضل آشتي، الذي قضى عمره أنصارياً باسلاً. وفاته خسارة جسيمة للأدب والمثقفين، وللعائلة التي كان يتنفس حكاياتها، عبر تاريخ طويل، عرف المنافي والشتات، لكنه لم ينس العراق الذي اختاره قمة جبل، سجل عليه وصاياه وحفرها على جذوع أشجار البلوط واللوز، مكتوبة بالشعر الغنائي العميق والجميل. الذاكرة والاستعادة المدونة شعراً هي لآشتي فقط. ولا أجد غيره كرس هذه الهواية والتمجيد للذات والانتماء.

كان يكتب ايقاعات حياته وتفاصيل الأيام الصعبة والمعقدة، ويرسم سعادته وأفراح الناس بالمقاومة والبقاء.

صديقي العزيز آشتي، مازالت صور وملامح صباحاتنا، في بيت الأنصار وسط أربيل، أنا وموفق محمد وحمودي شربة وعامر حسن، موشومة بالذاكرة. صباحات تبدأ بآخر نكتة استلمها من الخارج كوسيلة لمقاومة الغربة والوحشة، وابتعاد الأصدقاء، ويركض الوقت وهو منشغل بترتيب وتنظيف ما سيعده غداء لنا. لا يسمح لأحد التورط بما لا يعرفه، وهو طباخ ماهر.

أتذكر قبل أكثر من ثلاثة أشهر رنّ عليّ وسرد قصة مبتكرة، صدقت، لكنه كسر ما أنا فيه بضحكة، وأشبعنا بالكلام وطالبني بزيارته، لا أحد معه، هو يعرف ما يعنيه مثل هذا اللقاء لي، طرت اليه والكرادة قريبة، أول مرة أذهب إلى هناك وتسللنا إلى شقة لأحد أصدقائه ووزع ما يحتاجه مساء تعطل حضوره منذ زمن بعيد، وكلمات الترحيب تتراقص مصحوبة بنكاته واستعادته التي لا تتعطل عن الشاعر الكبير موفق محمد. وآشتي كثير الاتصال به، يستفزه ليسمع منه ابتكاراته اللحظية على من يعرف ويتداولها بوصفها جديد التبادل والتواصل.

أفضل الأماكن وأجملها التي تضم مكتبة، حتى ولو صغيرة تصفحت الكتب، والمفاجأة مفرحة، وغير متوقعة، ولها حكاية ترسم ما تعنيه زيارتي إلى آىشتي.

قرأت ما صدر للصديق المفكر كامل شياع وأخذني بقوة إلى ابن رشد، وتعرفت على بعض تفاصيل، قالها عن ترجمة فرح انطوان لكتاب مبكر جداً 1927. وبالإمكان التعامل معه باعتباره من بواكير النهضة “ ابن رشد وفلسفته “ترجمة المفكر مراد وهبة. وقصتي في البحث عن هذا الكتاب وسط القاهرة استغرقت وقناً طويلاً لكني حصدت الخيبة والاحباط لأن مثل هذا الكتاب وبتاريخ صدور إذا لم أجده في القاهرة فالحلم معطل. لم أجده في الهيئة المصرية العامة للكتاب وذهبت مع صديقي الشاعر اليمني علوان مهدي الجيلاني مرة أخرى لفرع ثاني للهيئة على أمل العثور عليه وواجهني الفشل أيضاً، سألت كثيراً من الأصدقاء وزرت مكتبات مدينتي في تلك اللحظة وجدت الكتاب الحلم، فرجوت آشتي بالسماح لي بتصويره واعادته بعد عودتي إلى الحلة.

وافق وعدت به سعيداً، متفرغاً لقراءة ما استطعت عليه بعد مساء غذته سرديات آشتي ونصوصه الشعرية حتى استكملت تصويره وأرسلته إلى الأخ آشتي وصار لآشتي حضور متعايش معي.

من الصدف الجميلة المحفوظة بالذاكرة اقتران آشتي بالمربد الذي أقيم عام 2004 ليس لأنه شاعر فقط، بل مصور فوتوغرافي والصورة ذات طاقة متبادلة ومتجاورة بين الشعر والفوتوغرافيا. كنت في صباح مكتظ برواد معرض تشكيلي وأنا أتابع عملاً نحتياً للفنان سماري، انتبهت لالتماع ضوء الكاميرا، التفتتّ ورأيت شاباً وسيماً وجميلاً مبتسماً مدّ يده لي وعرّف بنفسه، تعاملت مع محاولته لتصويري بوصفها نوعاً من الوساطة لعلاقة جديدة، كان اسمه مثيراً للدهشة والتحق الشاعر موفق محمد بنا وبشكل مفاجئ منحنا عربون صداقة، توقعنا ديمومتها مما تمظهر لنا منه.. والتقينا ليلاً واشترط أن تكون المساءات لنا، مثلما قال. غادرنا المربد وآشتي صاغ ذاكرتنا بالبصرة.

مساء ضاج في بيت الأنصار، حضرناه مع الذين ذكرتهم ومعهم زهير الجزائري وكاوه محمود ود. خالد. استمعنا له واستمع للشاعر موفق الذي دائماً ما يمتلك المكان والزمان، وبعد انتعاش الأرواح طلبت منه أن يقرأ لنا.. له صوت هادئ فيه حضور مسرحي يقرأ ويمثل، يبتسم كل جسده وهو يلاحق الوجوه حتى صمت وقال أشعر بالتعب.

قلت له: أريد ما قرأته لنا، وإذا توفر لك غيره سأكون سعيداً. في اليوم الثاني قدم لي CD بمظروف صغير دون عليه اسمي مع صور وقصائد لآشتي بعد بحث متعب لا أدري كيف تسنت لي فرصة العثور على الـ CD.

في ختام كلمتي للمؤتمر التأبيني في السويد، قلت بأن آشتي حاضر للأبد وغير غائب، لحظة بعد ما قلت هذا الكلام افترشت صورته شاشة الموبايل الذي أتحدث من خلاله وأردفت مكرراً: قلت لكم بأنه حاضر، لأنه ظهر لي وكأنه يتحدث لي.

آشتي ذاكرات، خزان واستعمالات ستظل حيّة وباقية في ضمائر كل الذين عرفوه.

عرض مقالات: