اخر الاخبار

يتوهم من يظن أن المثقف له دور، أو سلطة، أو أي تأثير في ما يتخذه السياسي من قرارات، أو في الرأي العام بكل أطيافه، بمن في هذا الرأي العام من يُدرّسهم هذا المثقف، أو درَّسهم وأشرف على أطاريحهم، وقرؤوا كتبه، أو ما أصدره من أعمال، هؤلاء من يعملون في الإدارات، ومن هم أساتذة في التعليم العام، أو في الجامعات، أو في غيرها من الأعمال والمهام والوظائف.

ثم، ونحن نتكلم بهذا التعميم، في التسمية، من هو المثقف. لن أكون مثل محمد عابد الجابري، لأعتبر المثقف هو المدرس، أو من يقرأ ويكتب، أو يجيد القراءة، بل المثقف هو شيء آخر، أوسع من هذا وأكبر منه، بل هو من لا يقرأ ليكون مثقفاً، بل هو مثقف بما يعتمل في نفسه من حيرة وقلق، ومن رغبة في البحث والسؤال، وفي فهم ما يجري حوله، أو تأمل ما يراه من مشكلات، وأفكار وقضايا تمس واقعه، وتاريخه، ويكون رجل معرفة، بالمعنى الذي يجعله يقرأ، لا من باب المتعة فقط، ولو أنها شرط من شروط المعرفة والإبداع، بل ليكتشف ما يجري في كل حقل، في علاقة بحقل عمله واشتغاله، أو ما هو منكب عليه من أسئلة وقضايا وأفكار.

ويتسع معنى التسمية أكثر، حين نذهب به إلى المعنى الأنثربولوجي، ليشمل كل التعبيرات التي لا تكتفي باللغة وحدها، فالرموز والإشارات والرسوم، والأطعمة والألبسة، والعمارة، والألوان، والعادات المختلفة، والأعراس، والأغاني، والاحتفالات، والرقصات، وغيرها من التعبيرات الرمزية، يمكن أن تدخل في هذا الباب، وفي هذه التسمية.

وإذن، فالمثقف عليه عبء معرفة، هي بحر، بالمعنى الذي شبّه به الشعراء العلم والمعرفة، وعليه عبء ما يعتريه، ويعيش به من قلق، وما تحته من ريح، بتعبير المتنبي. فما يكتبه ويقوله، أو يدلي به من حوارات، وأفكار، وما يناقشه فيما أتيح له من صحافة أو إعلام، فيه ما على السياسي، وما على عموم الناس، وحتى من يعتبرون ضمن شريحة المثقفين، أن يعرفوه، يقرؤوه، أو يتساءلون بشأنه، سواء أكان الأمر في السياسة، أم في الآقتصاد، أم في الدين، أم في المجتمع، أم في الثقافة والتعليم، أم في كل ما يمس المدينة، باعتباره نموذج ومثال العمران كما بلغناه اليوم، أو ما نسعى أن نبلغه منه، مما شق واستعصى علينا، حتى وبعض مظاهره موجودة عندنا.

صحيح أن دور المثقف، الحقيقي، هو أن يكون في واجهة الأفكار، والأحداث، والقضايا، وأن يدلي برأيه، ويقول كلمته، لكن، ليس في عزلته، وانكفائه على ذاته، أو اكتفائه بما يكتبه ويقوله، وينتظر أن يقرأه الناس، فحتى الإعلام عندنا، لا تعنيه الثقافة، ولا يعنيه المثقف، إلا بما هو واجهة لادعاء الإعلام الثقافة، بل الإعلام صار يخلط أوراق الثقافة نفسها، بتحويلها إلى كلام عام، وكلام في كل شيء، ومع أي كان، دون أن يقول شيئاً، أو يكون طرح فكرة أو رأياً، كون الإعلام نفسه لا يسعى وراء فكرة أو رأي، ولا يرغب إطلاقاً في من تكون له فكرة أو رأى، أو يقول ما لا ترغب وسائل إعلام الدولة في سماعه، أو الترويج له.

ما يعني، أن المثقف، باستثناء من تتبناهم الدولة، أو يتبنون هم الدولة، أو من ينقلبون على أعقابهم من هؤلاء، أو من انتسبوا إلى المثقفين وهم ليسوا منهم، ممن لهم أكثر من وجه وأكثر من قناع، محاصَر، ممنوع، تعطاه الكلمة بين الفينة والأخرى بحساب، أو بجرعات، أو حين تحدث بعض الأزمات التي لا يكون لسان السياسي قادراً على الخوض فيها، المثقف من يملأ الفراغ ويسدّه، ليتوارى عن الأنظار، معتكفاً في كتبه التي لا يقرؤها إلا بعض من في نفوسهم قلق المثقف، أو هم من المثقفين الذين ما زال الكتاب، وما زال العلم والمعرفة، جزءاً من هوائه ومائه، لا من اكتفى بماضٍ، المعرفة تتجاوزه دون توقف أو انقطاع، لأنها صيرورة وابتداع.

حين نقول المثقف، نقول المحاوِر، المنصِت، المختلف، المجادل، الناقد، ومن يقبل نقد الآخرين لأفكاره، المحاجج، من يعتبر البرهان وسيلة الإقناع الوحيدة، وهو من لا يقبل أن يتكلم عن غيره، أو يختلف معه وينتقده، دون معرفته، ومعرفة ما كتبه، وما يفكر فيه، وكيف يفكر، وما أدواته التي يستعملها في تفكيره، من أي المعارف والعلوم استقاها، وبأي معنى، ومن أي منظور، لا المثقف الذي يحكم جهلاً، أو يهرف بما لا يعرف، كما يقول القدماء، يصدر في رأيه عن أوهام، وأحقاد، ومكائد، مدفوعا لقول ما يقوله، ناطقاً باسم غيره ولا رأي له فيه، وهذا، في حقيقة الأمر، هو «المثقف» الذي فشا في الناس، وانتشر، ما دام المثقف بالفعل اكتفى بطرح رأيه وفكره، وما عنده من سؤال، دون أن يدخل في مثل هذه الأعطاب المريبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

“المساء” المغربية – 18 آب 2023

عرض مقالات: