في 14 كانون الثاني الفائت، نشر عدد من “الخبراء” في شؤون أوروبا الشرقية والسياسات الأمنية رسالة يطالبون فيها ألمانيا باتباع سياسة أكثر عدوانية تجاه روسيا، تتجاوز العقوبات الاقتصادية السابقة التي فرضها الاتحاد الأوروبي. ويدعو الموقعون إلى حرب باردة جديدة، وابتزاز اقتصادي، وسياسة مواجهة قوية ضد روسيا، وإشعال الصراع في أوكرانيا، والتوسع المستمر لحلف الناتو شرقا. لقد تم استنكار الوسائل الدبلوماسية لتسوية النزاعات سلمياً وبناء الثقة المتبادلة على أنها “مجرد ردود فعل لفظية أو رمزية من جانب برلين” والتي “تغري الكرملين بالمزيد من المغامرات”. وبالمقابل أصدر المعهد العالمي للسياسات الدولية Welttrend نداء أكد فيه الحرص على السلام والتعايش السلمي. واكد جملة من الحقائق نشير هنا باختصار الى الخلاصات المهمة الواردة فيه.

لغة الأرقام

وفقًا لدراسة حديثة لقسم العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، فأن تعهد الناتو في عام 1990 بعدم التوسع كان جزءًا من الصفقة الشاملة التي أنهت الحرب الباردة.  لقد تدهور الوضع الأمني بعد نهاية الحرب الباردة. ويعود ذلك إلى الاختلالات العسكرية، وثانيًا إلى توسع الناتو المستمر نحو الحدود الروسية، وثالثًا إلى إنهاء العمل بالاتفاقيات الأمنية الدولية.

وتقول معطيات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام: بلغ الإنفاق العالمي على التسلح في عام 2020، 1830 مليار دولار: حصة الولايات المتحدة الأمريكية منها 738 مليار دولار أمريكي، بما يعدل أربعة أضعاف حصة الصين 193.3 مليار دولار، وأكثر من 12 ضعفا لحصة روسيا البالغة 60.6 مليار دولار. وإذا أضفنا نفقات حلفاء الناتو الرئيسيين مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية إلى ذلك، فإن نفقات “الغرب” تبلغ ثلثي الإنفاق العسكري العالمي. وتنفق بريطانيا وفرنسا وألمانيا قرابة ثلاثة أضعاف حصة روسيا. ويشير معهد السلام السويدي أيضا الى وجود 13400 رأس نووي في العالم في عام 2020، منها 6375 في روسيا و5800 في والولايات المتحدة، وتمتلك الصين 320، وفرنسا 290، وبريطانيا 215.

وأصدرت القوى النووية الموقعة على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، إعلانًا مشتركًا في 3 كانون الثاني 2022، اعتبرت فيه تجنب الحرب النووية مهمتها الرئيسية: “نؤكد مجددًا لا يمكن الانتصار في حرب نووية ويجب لا تندلع أبدا”. وعليه فان من غير الممكن نشر التكهنات بشأن الأسلحة النووية الروسية، وتجنب الحديث عن الناتو.

ولا تختلف الصورة بشأن المعطيات وبيانات الأفراد والأسلحة التقليدية، والتي لا يسع هذا التقرير تناولها. وعليه فان السؤال الموضوعي من يحق له الخوف على وضعه الأمني: التحالف الغربي الواسع ام روسيا الاتحادية؟

سلوك مدان

ومن الضروري الإشارة الى سلسلة إنجازات الناتو: الحرب غير الشرعية على صربيا، واقتطاع كوسوفو، وتوسع الناتو شرقا، ورفض دول الناتو التصديق على معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا المعدلة، ولم يتم انهاء نشاط الناتو الاستفزازي حتى بعد خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007. وفي عام 2008 طلب من أوكرانيا وجورجيا الانضمام للناتو رسميًا، وجرى تشجيع جورجيا لخوض الحرب في عام 2008.

لقد انهت الولايات المتحدة العمل بمعاهدة الحد من أنظمة الدفاع الصاروخية الاستراتيجية، في عام 2002. ومعاهدة إزالة الأنظمة النووية متوسطة المدى في عام 1987، ومعاهدة “السماء المفتوحة” لمراقبة الأجواء الموقعة عام 1992. وقامت بنصب أنظمة الدفاع الصاروخي القادرة على عمليات هجومية في أوروبا الشرقية.

لقد ادى الانقلاب الموالي للغرب في اوكرانيا عام 2014، والذي حظي بدعم كبير من الولايات المتحدة وبعض حلفائها، الى تخلي روسيا عن ترددها. وأدى التهديد المباشر لروسيا الى تدمير الثقة الهشة بين المركزين المتصارعين.

البدائل ممكنة

وتصاعد التوترات بين الناتو وروسيا، الذي يتركز حاليًا على أوكرانيا، لا يمكن انهاؤه، إلا بتعزيز الضمانات الأمنية لجميع الدول المعنية وبناء الثقة بين الناتو وشركائه، أوكرانيا وروسيا، وجميع الدول الأوروبية الأخرى. وفي هذا السياق، يجب إعادة تنشيط الحوارات الدولية وأشكال الاتفاقات وتدابير بناء الثقة بين الدول.

وعلى عكس التوقعات السوفيتية، ولاحقا الروسية، استمرت الولايات المتحدة في سياسة الاحتواء القديمة، ناشرة القوات المسلحة والأسلحة النووية في أوروبا. لقد عززوا نظام السيادة المحدودة داخل دول أوربا الغربية، وضموا عددًا من دول أوروبا الشرقية الى حلفهم الهجومي واستخدموا هذا التوسع لنقل التواجد العسكري إلى الحدود الروسية. ويؤكد هذه الحقيقة بناء القواعد العسكرية، في بولندا وجورجيا وأوكرانيا وقريبًا في سلوفاكيا.

ان ما يجري ليس صراعا اوربيا جانبيا، بل يقف في مركز الصراع الأمريكي الروسي، ولا يمكن تجاوزه، الا بإنهاء الضغط العسكري على روسيا، والا سيكون الرد اقتراب الصواريخ الروسية من مناطق الأمن القومي الأمريكي، وهذا ما دعا إدارة الرئيس بايدن لفتح قنوات الحوار المباشر مع روسيا. ولهذا تطالب قوى اليسار والاعتدال بمشاريع الأمن الأوربي المشترك والكف عن استبعاد روسيا او محاصرتها. وان استمرار التوتر بين مراكز الهيمنة يخدم مصالح الولايات المتحدة بشكل مباشر، ويعمق تبعية أوربا الغربية لها.