اخر الاخبار

بدايات النازيين الجدد

لا ترتبط البداية بحدث بعينه، بل يعود الأمر إلى حد كبير إلى العمل على إحياء التقاليد النظرية، لمجموعة الأفكار الأساسية، التي ترفض مبدأ المساواة لصالح مجتمع قومي استبدادي قائم على مناهضة الليبرالية السائدة. لقد تمت صياغة هذه الأفكار في العشرينات من القرن الماضي، إبان بدايات صعود النازية بقيادة هتلر. والمرحلة المهمة، لبدايات الصعود الجديد في ألمانيا الغربية، أتت بعد فشل الحزب القومي الألماني NPD في الانتخابات البرلمانية العامة 1969. وقد مثل الحزب البداية الملموسة الأولى لتأسيس نازية بثوب جديد تغزو مؤسسات الدولة. بعد ذلك   تم البحث عن طريق يتوسط الحنين إلى الماضي النازي والمحافظة الديمقراطية. وفي وقت لاحق كانت هناك محاولات تأسيس أحزاب جديدة، مثل “حزب الشعب الألماني” وحزب “الجمهوريين”، حققت هذه الاحزاب نجاحات محدودة على صعيد برلمانات بعض الولايات.  حتى تأسس „حزب البديل من أجل المانيا”AFD في عام 2007، مستفيدا من عدد عوامل خارجية أهمها: الأزمة المالية التي عصفت بالنظام الرأسمالي السائد، وموجات توافد اللاجئين عبر البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى دعم مالي ملحوظ عبر متبرعين، وخصوصا الأموال القادمة من سويسرا. وعلى الرغم من أن الحزب لم ينجح في دخول البرلمان الألماني الاتحادي في انتخابات عام 2013، إلا أنه حقق في السنوات التالية نجاحات متتالية على صعيد برلمانات الولايات، بحيث مثل في برلمان 14 ولاية من أصل 16 ولاية تشكل المانيا الاتحادية. وفي انتخابات عام 2017 حقق نجاحه الأكبر بحصوله على قرابة 13 في المائة من أصوات الناخبين، ويصبح بذلك القوة الثالثة في البرلمان الاتحادي.

الحركات الاحتجاجية

ونشوء أحزاب سياسية جديدة

الحركات الاحتجاجية عادة ما تعمل كمحفزات. والديناميكيات التي تطورها، أما تتجه للاندماج بالمؤسسات بأشكال مختلفة، أو تصبح شيئا من التاريخ. وبقدر ما يتعلق الأمر باليمين المتطرف، فان حركة بيغيدا المعادية للأجانب وخصوصا المسلمين ظل تأثيرها بحدود ولايات بعينها، ولم تنجح بالتحول إلى حركة جماهيرية على مستوى عموم البلاد. في حين أنتجت تيارات في الحركات المناهضة للأسلحة النووية وحركات السلام وحزب الخضر لترجمة أفكارها إلى سياسات ملموسة. لقد احتوت الحياة البرلمانية حزب الخضر، بينما تميل الحركات في معسكر اليمين إلى استمرار تطرفها. اندلعت حركة بيغيدا في عام 2014، وفي عام 2019 ألقى مؤسسها لوتس باخمان خطابًا قسم فيه المجتمع إلى “مبدعين” و”منحطين” و “طفيليات”. وبهذا أصبحت بيغيدا، في النهاية تيارا دافعت رموزه عن الأيدولوجية النازية فكريا وفي لغة الخطاب أيضا. والغريب أن باخمان ظل بعيدا عن المسائلة القانونية التي ينص عليها الدستور الألماني.

أوجه تشابه

يمكن الإشارة إلى التشابه بين تيارات التطرف الأوربي والتطرف الإسلامي. ان كلا التيارين محافظان جدا، ويتمسكان بردود فعل كلاسيكية تجاه التحديث الاجتماعي والتطور العالمي. إن وجود حركات ناجحة للمساواة بين الجنسين أو من أجل حقوق الأقليات، يدفع هذه القوى لمعاداتها. لقد تصاعدت معاداة السامية السياسية بسرعة بعد المساواة القانونية لليهود في الرايخ الألماني. وعندما يناهض اليوم الإسلام السياسي عالم الدولة العلمانية والأفكار التحررية، فانه يتصرف بشكل مشابه.

والحركات التي تستند إلى إثارة صراع الهويات استفزازية وفي جوهرها تدميرية، وهذا ليس بالشيء المستحدث، فلقد اجاد فاشيو ونازيو القرن الماضي في فترة ما بين الحربين ممارسة الدعاية الحديثة. لكن ورثتهم الجدد أصبحوا أكثر ذكاءً واستراتيجية، وساعدهم ذلك في البداية على جذب انتباه وسائل الإعلام.  وفي هذه الاثناء أصبح معروفا أن أنصار صراع الهويات يبيعون النبيذ القديم في قناني جديدة.

مخاوف مشروعة

يتجاوز اليمين المتطرف العديد من الحواجز، ليس على صعيد الخطاب السياسي فقط، بل أن المانيا شهدت في السنوات الأخيرة عددا من الأحداث التي تؤشر تصاعد مخاوف مشروعة من استمرار النازيين الجدد في غزو ديمقراطية ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويمكن هنا الإشارة إلى مقتل عضو الحزب الديمقراطي المسيحي وحاكم منطقة كاسل في ولاية هسن، فالتر لوبكه في 2 حزيران 2019، في شرفة منزله على أيدي يمينيين متطرفين، بسبب مواقفه المؤيدة للاجئين. وكذلك اكتشاف مخابئ سلاح وشبكات يمينية متطرفة في الجيش والشرطة الألمانية، بما في ذلك تشكيلات القوات الخاصة، ولايزال التحقيق في بعضها مفتوحا. والموقف الرسمي بخصوص هذه الملفات يتركز على الإشارة إلى حالات فردية، وينفي وجود منظم للنازيين الجدد في هذه المؤسسات. وسياسيا تزداد المخاوف من لجوء اليمين التقليدي إلى حزب البديل من أجل المانيا، لتامين بقائه في السلطة، كما حدث في ولاية تورنغن في ربيع 2020، عندما جرت محاولة انتخاب رئيس وزراء يميني بمساعدة نواب اليمين المتطرف في برلمان الولاية، لحرمان رئيس وزراء الولاية من حزب اليسار للحصول على دورة رئاسية ثانية. لقد فشلت هذه المحاولة، وشكل تحالف حكومي بزعامة حزب اليسار يقود حكومة الولاية حاليا.

قوى الأمن واليمين المتطرف

هناك مقولة متداولة في أوساط قوى اليسار الجذري، والقوى المناهضة للفاشية في المانيا مفادها ان الشرطة “لا ترى في العين اليمنى” في إشارة إلى غض نظر أجهزة الامن الألمانية في كثير من الحالات عن تجاوزات وعنف اليمين المتطرف، فيما تكون شديدة وقاسية بحق من تصفهم بـ”اليسار المتطرف”. ومع ذلك فان التحدي الذي يمثله اليمين المتطرف هو مهمة مجتمعية مشتركة، ولا يمكن حصرها بنشاط أجهزة الأمن ومؤسسات الدولة. وذلك يجب الانتباه إلى المشاكل الداخلية، وعدم التسامح مع نشر الدعاية النازية، في حوارات عبر منتديات المحادثة الحديثة بين منتسبي المؤسسات الأمنية، بحجة الزمالة المسلكية. ومن الضروري عدم التقليل من خطر النازيين الجدد، باعتبار أن ثقافتهم ثانوية ولا تميل للعنف. وعلى الرغم من كل الخطاب “المتطرف”، فإن الهدف بعيد المدى ليس محاربة الدولة بقدر ما هو الوصول إلى أدواتها. وفي هذا السياق يجب أن تدرك جميع الأجهزة الأمنية أنها هدف جذاب للتأثير عليه وفيه. ومن الجدير بالانتباه أن العدد الكبير من الفاعلين في أوساط النازية الجديدة ينحدرون من خلفيات عسكرية. وفي النهاية يجب التشكيك والبحث في عقيدة التطرف، التي تنطلق في الغالب من قوى وسطية غير مثقلة بسوابق.

لا شك ان قدرات المتطرفين في الكثير من بلداننا أوسع واشد ضررا، فهذه القوى إما تكون مشاركة فعلية في السلطة، او تستند على “دولة عميقة” مسلحة ولا تملك للعنف بديلا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

*- تمت الاستفادة من حوار مع المؤرخ الألماني الدكتور فولكر فايس نشر أخيرا في جريدة “نيوزدويجلاند” اليسارية.

عرض مقالات: