اخر الاخبار

هناك ملاحظات مهمة حول طبيعة المليشيات المسلحة في السودان قد تميزها عن كل الكيانات المسلحة في العالم، وعن تاريخ الصراع الاجتماعي التاريخي في السودان. فهي تكوينات نخب امتشقت السلاح الذي لا يدري احد من اين أتى. وهي تتبني شعار التهميش الذي ترزح تحت نيره مجموعات سكانية في السودان، لكنها تلتزم الصمت حيال السياسات المالية والاقتصادية التي انتجته بفعل العلاقات التي تربطها بالدوائر الاستعمارية التي تحقق تلك السياسات مصالحها.

  فهناك شبهات تتعلق بمصادر تمويل كل المليشيات في السودان. وهي لم توضح من اين حصلت علي السلاح، ولا على الدعم المالي واللوجستي الذي تتمتع به في حلها وترحالها . وكان معظم قادتها قد هبطوا في مطار الخرطوم عقب ثورة ديسمبر، قادمين من عواصم عالمية وإقليمية، مع انهم ظلوا يرفعون السلاح في وجه دولة غضّ النظر عن طبيعة نظام الحكم فيها، الا انها ظلت عضوا في المنظمات العالمية والإقليمية. وان مساندة قوى متمردة عليها من طرف اي دولة في العالم يعتبر تدخلا في شئون السودان الداخلية. 

كما ان السلاح في حالة الحركات المتمردة لا يتم الحصول عليه باتفاقيات دفاع مشتركة او شراؤه من السوق كما تفعل الدولة. وانما ينساب باتفاقيات سرية تبرم في دهاليز المخابرات، ويتم نقله عبر دول مجاورة ضالعة في المخطط. والمعروف في تاريخ الثورات الشعبية ان الثوار لا يحصلون على السلاح بهذه الطريقة.

كما ان تلك الحركات ظلت طوال تاريخها تسعى للمشاركة في السلطة القائمة عبر ممارسة الضغط عليها، لاجبارها على تقديم تنازلات تسمح بتوسيع قاعدة النظام القدي،م وفق ترتيبات ترعاها دولة اجنبية او مجموعة دول مثل مجموعة «الترويكا» او شركاء «الايغاد». فيصبح قادتها جزءا من مجموعة الفساد المتحكمة، الى ان يحين انفاذ جوهر تلك الترتيبات، وهو تقرير المصير للقوميات التي يدعون تمثيلها.

لكن اهل السودان بحكم انهم خضعوا لنظام اقتصادي واحد يقوم على اعادة انتاج المظالم التاريخية واستدامتها، فقد نمى لديهم وعي اجتماعي مشترك، ظل يتطور مع الزمن وينعكس داخل المؤسسات ذات الطابع القومي والوطني، مثل القوات النظامية والخدمة المدنية ومؤسسات التعليم العالي، وفي الفكر وفي الثقافة . وهو وعي لا يكتفي بالوقوف في حدود الظواهر الاجتماعية مثل التهميش، ولكنه يسبر اغوارها حتى يصل الى الاسباب التي انتجتها. لذلك لا تخدعه شعارات مثل ان ابناء الشمال والوسط يستاثرون بالسلطة والثروة،  ويتركون شعوب السودان الاخرى تتضور جوعا. لكنه يعلم ان هذه الظاهرة هي نتيجة طبيعية لطريق التطور الرأسمالي التابع الذي ينشط في المناطق السهلة، والذي ينتج التنمية غير المتوازنة، ويجعل كل بقاع السودان منتجة للمواد الخام ويمنع عنها الخدمات.

 ان الحل الجذري للتهميش هو انتهاج طريق تطور لارأسمالي يقوم فيه الانتاج علي سد احتياجات السكان ولا يكون هدفه التصدير لتلبية متطلبات السوق العالمي. وهذا التوجه يتعارض مع سياسات مؤسسات التمويل العالمية. وقد اصبح واضحا ان اي كلام عن الحداثة او التحديث معزولا عن العدالة الاجتماعية، هو حديث منقطع عن جذور المشكلات الاجتماعية. وانه ليس في الامكان تجاوز الازمة السياسية الراهنة، من غير توجه اقتصادي يقوم علي استقلال الدولة في المقام الأول، ثم يؤسس لطريق تطور اقتصادي غير تابع لرأس المال العالمي، ويتعامل بنديّة مع الآخرين في السوق العالمي، وليس على طريقة (بين البائع والمشتري يفتح الله) كما يقول المثل السوداني.

ان المحاولات الجارية الان والتي يقوم بها وكلاء الاستعمار المدنيين والعسكريين، تهدف الي قطع الطريق امام تطور الوعي المشترك لأهل السودان منذ ثورة ١٩٢٤، التي قام بها عسكريون ومدنيون .. وهو تطور عكس كون الجيش بحكم تكوينه الاجتماعي، ليس بعيدا عنه. مما يجعله مؤسسة وطنية مصلحتها تكمن في تكوين دولة مستقلة، رغم الممارسات الخاطئة التي يرقى بعضها الى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبت باسمه وبمشاركة كبار الضباط فيه.

والحديث الذي يدور الان عن اعادة هيكلة الجيش او تكوين جيش مهني يخضع للسلطة السياسية، يهدف في الاساس الى ادخال المليشيات المسلحة بارتباطاتها الخارجية لتصبح جزء من المؤسسة العسكرية.

 وبذلك يكون السودان قد دخل مرحلة الاستعمار المختلط. ويكون التفاوض حول مستقبله حقا اصيلا للدول التي ظلت ترعى تلك المليشيات والقيادات المدنية، التي تتحرك الان على المسرح السياسي.

وسيكون الصراع في المستقبل بين الشعب السوداني و كل الفاعلين السياسيين والعسكريين، باستثناء الحزب الشيوعي.

عرض مقالات: