اخر الاخبار

المثقف العضوي

هو ذلك المثقف الذي يختار لنفسه موقعا مؤثرا في الحراك المدني القاصد وقف التدهور أولا، والعامل على تصحيح الأوضاع وإصلاح وتغيير البنى التشريعية والمؤسساتية التنفيذية للدولة والمجتمع ثانيا، وقد ربط غرامشي، مولّد المصطلح  هذا، المثقف العضوي بالطبقة الاجتماعية حيث يعبر ويدافع عن مصالح تلك الطبقة ويسعى لتنظيم حركتها ووعيها وبحسب غرامشي “ إذا كان المجتمع السياسي هو الفضاء الذي تُحدث فيه الهيمنة بوساطة وسائل القوة والقهر فإن المجتمع المدني هو فضاء للهيمنة الإيديولوجية “

ويبقى جوهر وظيفة المثقف هو النقد والمواجهة، وهذه الوظيفة،  تتمثل في ذلك التعاشق الذي يحدث في لحظة ضرورة تاريخية، اجتماعية وسياسية بين الفكر والممارسة وبين البعدين الثقافي والسياسي، وهنا تغدو هذه الوظيفة العضوية صورة للمثقف، وهي صورة ثلاثية الأبعاد، مجسمة ومركبة ومتحولة تختزل مجموعة صور (المثقف) كما في شريط سينمائي، صورته مهتما بالشأن العام، وقارئا لوضع مجتمعه الذي هو في حالة أزمة، ومبدعا لأعمال فنية وفكرية. ومشاركا في الحراك المدني، فيكون الاهتمام في الشأن العام انغمارا في تبني قضية، سواء بالتعبير الأدبي والفني والفكري والإعلامي أم عبر النشاط المدني الممأسس. ما يجب أن يتعلمه المثقف هو نسيان البلاغة الفضفاضة لخطابه المحمول السياسي/ الاجتماعي المبتذل، والتعاطي مباشرة مع مفردات الواقع الصغيرة منها والكبيرة التي تتموج أمامه في البيت والمؤسسة والشارع والمحفل العام، في كل ساعة وكل يوم، والواقع بتناقضاته وصراعاته وتحوّلاته ومفاجأته المرئية منها وغير المرئية، في المتون وعلى الهوامش، ليبتكر خطابا سياسيا يتساوق وروح العصر ومتطلباته.

ثانيا: الأنسنية

مذهب فكري نشأ في خضم الهزّات الفكرية التي حدثت في عصر النهضة الأوروبية لكسر القيود التي أبقت الإنسان لمدة طويلة في حالة من عبودية للسلطات الفاعلة في حينها، الكنيسة والملكية والأقطاع، وحالت من دون تحرر العقل الذي هو المقدّمة لتحرير الإنسان، ومع إنّها بزغت في عصر النهضة إلا أنها لم تتأصل وتزدهر إلا في عصر التنوير (القرنان السابع عشر والثامن عشر) من هنا ترتبط الأنسنية بسياقها التاريخي/ الحضاري وبأرضيتها الاقتصادية الاجتماعية. وكانت فكرة مركزية الإنسان في العالم ومسؤوليته (وحده) عن خلاصه، معتمدا على معاييره العقلية والقيمية ومبادراته هي المرتكز الأساس الذي قامت عليه، وبقيت محددة ومتعينة بنطاقها الأوروبي، ولحقبة طويلة تمثّلت نظرة الأوروبي/ الغربي إلى الآخر غير الأوروبي على وفق معايير أنتجت تراتبية عرقية لتكرّس ما سمي ب المركزية الأوروبية، استطاع  الفكر الأنسني تغيير الترسيمة المعرفية للعلوم الإنسانية كافة من خلال تغيير رؤية البشر إلى أنفسهم وإلى العالم والتأريخ ممهدا لعصر رأسمالي متقدم وثورة صناعية عظيمة، وتحولات سياسية ما زالت بلاغتها تتصادى في أربعة أركان الأرض، وهي عند دعاتها ليست دينا جديدا بل هي البديل المنطقي للدين، وليست عقيدة مادية بل فكرة مفتوحة على الوضع البشري والطبيعة والعالم.

الكلمة المفتاح التي يوردها إدوارد سعيد في كتابه (الأنسنية والنقد الثقافي)  مرادفة للأنسنية هي الدنيوية، التي يستحيل التملص من شروطها القائمة فيما هو تاريخي حقيقي حيث كل شيء متورط بالسلطة والموقع والمصالح. من هذا المنطلق يرى سعد محمد رحيم، أن المثقف الحديث ولد في حاضنة الفكر الأنسني، مبشّرا رسوليا من نوع مغاير لنمط المبشّر والداعية الديني السائد، وفاعلا اجتماعيا يدسّ أنفه في الشأن العام، وخالقا للمعرفة والجمال، وناقدا للسلطات العاملة، متسائلا محيّرا بوجوده الباعث على القلق، لا منتميا بطريقته الخاصة، ومعكّرا لصفو المجتمع التقليدي، تلك الولادة التي رافقت مشروع العلمنة وتكوين الدولة القومية، وصعود الطبقة البرجوازية، واختراع الطباعة ونشوء الصحافة، وبروز أنواع أدبية جديدة مثل: الرواية والقصة القصيرة والشعر والسيرة الذاتية... وقيام الجامعات وزيادة الاهتمام بعلوم إنسانية عديدة منها، علوم الاقتصاد والاجتماع والأنثروبولوجيا..

- الدولة/ الأمة

الدولة الحديثة تنظيم عقلاني بمؤسسات ناظمة للمجتمع، تحتكر وسائل العنف، وتقوم بحماية مواطنيها وتفترص فيها تحقيق مبدأ العدالة في التعامل مع الأفراد والجماعات، وهي بحسب هيجل” الشكل التاريخي الخاص الذي تكتسب فيه الحرية وجودا موضوعيا “ والدولة تعمل على توحيد عدد كبير من الناس بإخضاعهم لقوانين” بحسب كانط، أما جان جاك روسو فيرى بهذا الصدد، أن الشعب الحر يمتثل ولا يخدم أحدا، له قادة وليس له أسيادا، ولا يمتثل للقادة إلا بقوة القوانين” والتأكيد على مبدأ المواطنة، وفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بعضها عن بعض، وتداول السلطة من طريق الاقتراع الشعبي الحر كلها من نتائج فكر التنوير. فالدولة لن تكون قوية إلا بوجود مواطنين أحرار “ إن دولة تقزّم رعاياها لتجعلهم مجرد أدوات خنوعة لخدمة مشاريعها، حتى وإن كانت هذه المشاريع مفيدة، ستعجز في النهاية عن القيام بمنجزات كبرى اعتمادا على أقزام “ يرى المؤلف، أن الدولة الحديثة قد أصيبت بمرض عضال عندما استعملت الهوية وسيلة سيطرة وتحكم، وصارت الهوية بديلة عن الذاتية الحرة وامتدت سيطرتها لتشمل اللغة والدين والقبيلة “ إذ ما دامت الدولة الحديثة قد صنعت جهاز الهوية مثل، أوراق الهوية وصور الهوية وبصمة الهوية، ولكن أيضا اللغة والدين والقبيلة “ وحولته إلى جدار أخلاقي وامتحان أمني مسلّط على رقاب سكانها، فأنهم لن يكونوا مواطنين إلا بثمن ( هووي  .هذا هو مرض الدولة/ الأمة العضال فهي لا ترى على إقليمها غير كائنات (هووية) من دون أي مخزوناً ذاتياً فردياً أو خاصاً. ولذا ففي الدول الريعية، التي اقتصادياتها ذات بعد واحد ستبدو الإشكالية أعمق، ففي العراق مثلا تغدو  الهوية، نتاج عقلانية أداتية براغماتية متعسفة ومبرمجة بمعادلة بسيطة، غير أنها كارثية  يقول المؤلف مشخصا حالة الدولة في مثل هذه الحالة “ فهي صناعة سياسية سالبة للذات والحرية والروح، فحين تكون الدولة ريعية ستُقال أولا كلمة ( الدولة ) بتحفظ شديد، وثانيا نكون إزاء عملية مأسسة من النمط القبلي، يكون المرء رقما هلاميا غفلا في مجموع إحصائي مجرد لحين قيامه بسلوك تمردي وحينئذٍ يُصفّى وكأنه لم يكن، أو يُطرد خارج إطاره الهووي، خارج قبيلته ذات البزّة الحداثوية” المطلوب من المواطنين هنا، الطاعة والاستكانة وإثبات براءتك وولائك في كل يوم وفي كل ساعة، فأنت تعيش بقوة الهوية الممنوحة لك من قبل الدولة، التي تريدك شاكرا لفضلها ما زلت تعيش وتجد ما تأكل وتشرب حتى وإن كنت محشورا تحت خط الفقر. الكتاب غني جدا بالمصطلحات التي يمكن أن نسميها بالمؤسساتية - إن جاز لي التعبير- من مثل: التنوير والعقلانية والديمقراطية والهوية والحرية والفردانية والغيرية والهجنة والحداثة والعلمانية والدنيوية.. فقد تتبع المؤلف تأريخ نشأتها  وانعكاساتها في أوروبا وفي المنطقة العربية ووضح نتائجها، وبين طروحات منظّريها وآرائهم بشكل تشخيصي عميق ينم عن وعي معرفي  وفكر فلسفي تمتع به سعد محمد رحيم، وما هذه الإضاءة سوى غيض من فيض تجربته العميقة في مجالات الفكر والمعرفة والفلسفة.

 **********************

المراجع المعتمدة

- (المثقف الذي يدسُّ أنفه..) مقاربات في مفاهيم الأنسنيّة والتنوير والحداثة والهويّة والوظيفة العضوية للمثقف/ سعد محمد رحيم/ دار سطور للنشر والتوزيع/ بغداد ط١ ٢٠١٦.

- (الأنسنية والنقد الثقافي) إدورد سعيد/ ترجمة: فواز طرابلسي/ دار الآداب/ بيروت ط١ ٢٠٠٥ م.

- (سوسيولوجيا المثقفين) جيرار ليكرك/ ترجمة: د. جورج كتورة/ دار الكتاب الجديد المتحدة/ بيروت ط١ ٢٠٠٨م.

- (نقد الحداثة) ألان تورين/ ترجمة: أنور مغيث/ المجلس الأعلى للثقافة/ مصر  ١٩٩٧م.

عرض مقالات: