اخر الاخبار

صراع السرديّات في العراق

نشر موقع Eurasia Review دراسة تحليلية حول العلاقات العراقية بدول الجوار، أعدّها الباحث بيتون داي، وأشار فيها إلى تحوّل العراق إلى ساحةٍ تتصارع فيها سرديّات مختلفة؛ تُجمّل بعضها النفوذ الإيراني، فيما يسعى بعضها الآخر إلى تجميل النفوذ التركي في البلاد، مؤكّدًا ان رغبة الطرفين في انتزاع أكبر مساحة من الهيمنة لصالحهما، وتقليص مساحة نفوذ الخصم، هي ما تقف وراء هذا الصراع وتغذّيه.

الصديقان اللدودان

وذكّرت الدراسة بما لطهران من نفوذ كبير على السياسة العراقية، تمتعت به تاريخياً من خلال علاقاتها مع المؤسسات الحاكمة وحلفائها في محور المقاومة، والأجهزة الأمنية، في وقت تبدو فيه للتوترات الداخلية المتصاعدة والانتكاسات الإقليمية الأوسع نطاقًا، تأثيراً على تقليص هذا النفوذ، ما يثير لديها قلقاً كبيراً، لاسيما مما قد تسفر عنه الانتخابات التشريعية المزمع اجراؤها في تشرين الثاني المقبل.

من جانبها، تشهد العلاقات بين بغداد وأنقرة تذبذبًا واضحًا؛ فبينما وقّع العراق مؤخرًا سلسلة من الاتفاقيات التاريخية مع تركيا تُرسّخ التعاون العسكري بين البلدين، بما في ذلك التدريب المشترك، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتنسيق أمن الحدود، توترت الأجواء بسبب الدعم التركي للمتمرّدين السوريين الذين أطاحوا بنظام الأسد، والذي زاد من مخاطر تنامي نفوذ حلفاء دمشق الإرهابيين السابقين على أمن العراق، فيما بقيت الانتهاكات التركية للسيادة العراقية أمرًا مرفوضًا لدى العراقيين، الذين تباينت مستويات رفضهم، وفقًا لمواقفهم الأيديولوجية وعلاقاتهم الإقليمية. وخلصت الدراسة إلى أن هذا التذبذب كفيل بخلق حالة من عدم اليقين لدى القادة الأتراك.

نارٌ تحت الرماد

وادّعى الباحث أنه، وجراء هذا القلق، يجري تضخيم المخاطر الناجمة عن تقلّبات موازين القوى الإقليمية، وما تشكّله من تهديدات مباشرة للسيادة العراقية، بهدف إقناع بعض المعارضين بقبول الواقع القائم، أو التقليل من حرصهم على استقرار البلاد، بغية إرباكهم وتضليلهم، ريثما يُجرى تقييم استراتيجي للصراع وإعادة تنظيم الصفوف في مواجهة الضغوط الخارجية.

ورأى الكاتب في الخلافات الحادة بين رئيس الحكومة وأطرافٍ متنفذة وقوية في العراق تجسيدًا لهذا الادعاء، حيث أطلقت هذه الأطراف سرديّات تنشر رؤى مختلفة، تُسلّط الضوء على جوانب معينة من الواقع وتُقلّل من أهمية جوانب أخرى، بهدف التحكّم في تشكيل التصوّر العام، واستخدام المظالم المحلية، والهويّات الطائفية، والمشاعر القومية لإضفاء الشرعية على الأجندات السياسية، وتوجيه الانتباه الجماعي نحو – أو بعيدًا عن – جهات فاعلة وأحداث معيّنة.

ساحة لصراع السرديّات

وأعرب الكاتب عن تصوّره بأن العراق يُشكّل مصدرًا غنيًا وفريدًا للشائعات، إذ إن مشهده الإعلامي المسيّس، الذي تُعدّ الطائفية وخطاب الكراهية من أبرز سماته المميّزة – بحسب تقرير حديث للأمم المتحدة – يُعدّ ساحة معركة سرديّة، تتميّز بالمنافذ التابعة سياسيًا، التي غالبًا ما تُضخّم الروايات العدائية والمعلومات المضللة لتحقيق مكاسب سياسية. ولأن مثل هذه الحملات لا تستهدف الجمهور الغربي، فقد يصعب على المراقبين الخارجيين فهم جاذبيّتها أو تقدير حجم تأثيرها في تشكيل الرأي العام.

وأكّدت الدراسة أن هذا الإعلام يتمتّع بمرونة ملحوظة، إذ يدمج باستمرار التطوّرات الجديدة في سرديّات مألوفة، لتبرير الأجندات السياسية الجارية، وتشويه سمعة المعارضين. وتمكّنه هذه المرونة من إعادة صياغة السياقات، والحفاظ على الاتساق الأيديولوجي، واستغلال لحظات الأزمة، وتحقيق أهداف طويلة الأجل دون أن يبدو انتهازيًا.

كما تلعب بعض هذه السرديّات دورًا ليس في الإقناع فقط، بل في تشتيت الانتباه، أو التضليل، أو التفرقة، عبر إشارات متناقضة، تفضي إلى كلا الاتجاهين: تهديداتٍ صاخبةٍ تفتقر إلى المتابعة، وإشاراتٍ تهدئة تُخفي التعبئة؛ وذلك لإخفاء النوايا الاستراتيجية.

وختم الباحث دراسته بعدد من الاستنتاجات حول الخطط التي تُنفَّذ في العراق لإنقاذ النفوذ الإقليمي، وإعادة ضبط الاستراتيجيات الأوسع، وتوظيف مزيج من الخطاب العدواني، والتناقضات، والعنف المُستهدف منخفض المستوى، وتجنّب المواجهات المباشرة التي قد تُقوّض المكانة السياسية، والحفاظ على مرونة التكيّف مع إبقاء الخصوم غير متيقنين من النوايا الحقيقية.

وخلص إلى أن سرديّات الخصوم لا تكشف فقط عمّا يريدون للآخرين أن يصدّقوه، بل تكشف أيضًا عمّا يسعون إلى طمسه.

عرض مقالات: