اخر الاخبار

حدّثني صديق، قال بأنها قصة واقعية حدثت في إحدى مدن العراق الجنوبية، في أربعينيات القرن الماضي، عن بائع لبنٍ في تلك المدينة السومرية، في أعماق جنوب العراق.

مجيد، يتيم الأب منذ صغره، يعيش في غرفة طينيّة معتمة مع أمه التي فقدت بصرها منذ سنين، قارب الثلاثين من عمره ولا يزال يبيع اللبن مذ كان صغيرًا في العاشرة، مهنةٌ توارثها عن أبيه الراحل.

متوسط الطول، لوّحت الشمس بشرته السمراء فأحالتها داكنةً.. عيناه واسعتان يستوقفك بريقهما، وأنف كبير يفخر به ضاحكًا،” هذا عنوان الرجولة ..”

عربةٌ خشبية صغيرة متهالكة، يجرّها يوميًا إلى سوق المدينة في قيظ الصيف الحارق، يبيع اللبن البارد ممتزجًا بعذوبة غنائه.. يملأ الشجن صوته، وبحّة مجروحة تزيده شجنًا.. يغنّي المواويل الجنوبية والأبوذيّة بدفء أهوار العراق؛ فيتغلغل صداه إلى أعماق سامعيه.. أحبّه أهل المدينة، واشتهر بينهم مغنّيا لا يجاريه أحد، وله طورٌ غنائي سميّ باسمه.

في مواسم بيع الأصواف، ينتقل مجيد بعربته إلى الباب الشرقي للمدينة، حيث يتوافد رعاة الأغنام وعوائلهم وأغنامهم من المناطق المجاورة  إلى باحة واسعة في المدينة لبيع أصوافهم للتجّار هناك، يستأجرون غرفًا في خانٍ كبير لعدة أيام، لحين الانتهاء من بيع أصوافهم، ثم يعودون إلى ديارهم محمّلين بالطحين والتمر والدهون.

يلتفّ بعض الرعاة حول عربته الصغيرة ليشتروا اللبن، ويستمتعوا بغنائه العذب.. وبنتٌ صغيرة بعمر الزهور تقف مشدوهةً، وصوته الذي ازداد دفئا وعمقًا، وعذوبةً، يتسرّب إلى قلبها الذي خفق مبكّرًا.. تذوب نظراته ولهًا بعينَي نسمة ذات الأربعة عشر ربيعًا، برعمٌ للتوّ تفتّح، وعينان سكبت فيهما النجوم ضوءها؛ فاشرقتا ألقًا.. وبشرةٌ صبغتها الشمس بلون خمرةٍ معتّقة.. شربَ منها فأسكرته، وهام بها حبّا.. لازمه طيفها ليلًا؛ فأرّقه.. بثّ أشجانه لأمه حين اقترب موعد عودة الرعاة إلى ديارهم

— تقدّم لطلب يدها يا ولدي.

— كيف؟ وأنا فقير ويتيم.

— خذ معك أحد وجهاء المدينة، هم يحبونك ولن يرفضوا طلبك.

وذهب إلى مضارب تجار الأغنام برفقة وجيهٍ مهيب.. وكان الردّ قاسيًا

— لا نزوّج ابنتنا لبائع لبنٍ فقير.

واختفت نسمة.. حزنٌ عميق تغلغل في ثنايا روحه وسكن في صوته؛ ففجّر غناءه ألمًا ولوعةً تناقلتها الطيور والغيوم.. والماء والحجر.. وأخذ الصوت السومريّ يطبق الآفاق، وتردّد الحناجر مواويله الحزينة الباكية.. وأمستْ نسمة طيفًا يلازمه أينما ذهب.. يؤرّقه، فينزف قلبه دمًا يسكبه في غنائه.

اعتراه الوهن، وشحوب موتى أخذ يكسو وجهه، ثقيلةٌ أصبحت خطاه، تئنّ وهو يجرّ عربته.. وقيل أنه أصيب بالسلّ.. وقيل أن الناس انفضّوا من حوله خوف العدوى.. وقيل، وقيل.. وقيل أن نسمة تعمل في دار بغاء في مدينة جنوبية مجاورة، خبرٌ تطوّع بنقله إليه أحد معارفه.. لثريّ زوّجها والدها، ولدار بغاءٍ باعها زوجها الثريّ تاجر الرقيق الأبيض..