اخر الاخبار

في أواخر عام 2002، وقبل أن تتلبد سماء العراق بدخان نار   الحرب، كنت قد حصلت على جهاز "ستلايت" صغير، هدية من صديق، فتح لنا نافذة ضيقة نطل منها على ما يدور في العالم. لم تكن القنوات كثيرة، لكنّ "الجزيرة" و"العربية" وبعض القنوات اللبنانية والكويتية كانت تكفينا، نلتقط بها أنفاس الأخبار ونلاحق بها تحضيرات الحرب الوشيكة كنا نحن، مجموعة من الرفاق، نتحلق في حلقات صغيرة، حذرة، نعتلي سطح البيت لنثبت الصحن يدويًا كل مساء، نحمل معنا جهاز التلفزيون وكأننا نحمل حلمًا صغيرًا بالحرية، ثم نُنزله ليلًا إلى مخبأه بعد أن نفرغ من الترقب، في طقس يومي محفوف بالمخاطر.

عشنا لحظة بلحظة دخول قوات الاحتلال، معركة المطار، وانتهت الحكاية، أو بدأت، عند ظهيرة يوم 9 نيسان حين سقط تمثال الطاغية في ساحة الفردوس.

خرجنا مبتهجين، نذوق لأول مرة طعمًا مشوشًا للفرح. نتلقى التهاني من الناس، ونجوب شوارع مدينتنا نحدّث الجنود والبعثيين الذين ما زالوا يحملون بنادقهم وموزعين على السيطرات لا يعلمون شيئا عن سقوط النظام في بغداد، بعضهم انسحب خائفًا وبعضهم هددنا بتقارير حزبية لا قيمة لها في زمنٍ يتبدل. كنّا نضحك ساخرين، نعي أن الزمن يتغير بسرعة لا يمكن إيقافها. مرت أيام قليلة، وإذا بالخبر يلمع على الشاشة الصغيرة: أول صحيفة عراقية توزع في بغداد بعد سقوط النظام، إنها طريق الشعب. ارتجف القلب، وامتلأت الأرواح بشوقٍ عارم. بدأنا نخطط كيف نصل إلى بغداد، كيف نلمس جريدة الحزب بأيدينا، وكيف نلتقي برفاق هناك.

توصلنا إلى فكرة، صديقي وأنا، أن نستعين بأحد المقاولين الذين نعرفهم، رجل يملك سيارة ومكتبًا في العاصمة. لكن إقناعه لم يكن سهلًا، فبعضهم كان يعتقد أن الديكتاتور سيعود، وأن مفاوضات خفية تجري في الظلام. بكل الحيل والوعود استطعنا أن نقنعه. غادرنا هيت مع بزوغ الشمس، كانت الطرق خاوية حتى اقتربنا من الفلوجة، حيث اصطدمنا بأرتال الشاحنات تنهب مخازن الدولة في الحصوة، بين بغداد والفلوجة. دخلنا العاصمة ودهشنا من فوضى المزاد العلني لبيع سيارات الدولة، وبيع الأسلحة على الأرصفة، وتلك الكتابات على بعض البنايات الحكومية "محجوز للحزب الفلاني". بدأنا البحث عن لافته تشير الى "محجوز للحزب الشيوعي العراقي”، واصلنا رحلتنا نحو ساحة الفردوس، مررنا بجسر الجمهورية بعد ان تجتزنا ما يعرف اليوم بالمنطقة الخضراء، حيث وقفت دبابة أمريكية تعترض الطريق. ساحة الفردوس كانت تعج بالمراسلين وأصحاب هواتف الثريا، والناس يزاحمون بعضهم للاتصال بذويهم في الخارج. بحثنا كثيرًا عن جريدة طريق الشعب لكن دون جدوى. وعاودنا البحث في مناطق مختلفة ونحن نجوب شوارع بغداد بحثا عن بناية يتواجد فيها الشيوعيون لكن دون جدوى، مع اقتراب الغروب، خابت آمالنا وقررنا العودة إلى هيت. وفي طريقنا عبر شارع أبو نؤاس، لمحنا لافتة على مبنى: اسم الحزب الشيوعي العراقي. صحت بصوتي: "اطبك! اطبك! لقيناهم!" نزلت من السيارة مسرعًا، رأيت مجموعة واقفة عند مدخل البناية. سألتهم، بلهفة المختبر للحقيقة: "أنتم شيوعيون؟ من جماعة عزيز محمد وطريق الشعب؟" ابتسموا، وأجابوا: نعم. لم أتمالك نفسي، احتضنتهم واحدًا واحدًا، وكأنني أعانق الوطن في لحظة خلاصه. طلبت الجريدة، فدخل أحدهم وعاد محمّلًا برزم من طريق الشعب، ومجلات الثقافة الجديدة، وبوسترات الحزب. ودعناهم، وقد سكن فينا شعور لا يوصف. ارتوينا من اللقاء، كأننا لامسنا شمسًا كانت غائبة، نسينا الجوع والتعب، وعدنا إلى هيت محمّلين بما هو أثمن من الذهب: رائحة الحزب... ونبض الطريق.