بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958، حلّ علينا ضيفٌ ورقي جديد، أدخله الوالد إلى بيتنا. كنت آنذاك صغيراً، لم أدخل المدرسة بعد، ولم أعرف اسمه. لكن، في الصف الأول الابتدائي، وبعد أن تعلمت الأبجدية الأولى (دار، دور، قدري قاد بقرَنا)، استطعت أن أفكّ اللغز، وأقرأ ذلك العنوان الأحمر الواضح: اتحاد الشعب... نقطة، رأس السطر.
ثم جاء انقلاب شباط الأسود، الذي انتزع فرحة الناس وآمالهم بالثورة المجيدة، تلك التي أنجزت في زمن قصير ما عجزت عنه حكومات كثيرة قبله وبعده. ومع الانقلاب، اغتال البعث الفاشي مستقبل البلاد، ونشر حولها السواد والوجع... ولا يزال.
حينها، أضطر الوالد إلى اتخاذ قرار مؤلم: أحرق الجرائد، ودفن الكتب في حديقة المنزل، قبل أن يُعتقل لاحقاً، كما اعتُقل عدد من أقاربنا وأحبّتنا.
وفي أوائل السبعينيات، عاد الحزب إلى الحياة من جديد، وعاد ضيفنا الورقي العتيق بحلّة جديدة، لكن هذه المرّة بلغة كوردية، عبر الصحيفة الأسبوعية "بيرى نوى"، والتي تعني 'الفكر الجديد'. ثم صدرت لاحقاً بالعربية، لتعود تلك الروح من جديد... روح الكلمة التي لا تموت.
أثناء فترة دراستي الجامعية، كانت جريدة طريق الشعب تصدر يومياً. وكنت أحرص على اقتنائها كل صباح من كشك قريب من الجامعة. ولأنها كانت تنفذ بسرعة، خلافاً لسائر الصحف، اتفقتُ مع بائعها الطيّب ـ والذي لا أذكر اسمه للأسف ـ أن يحتفظ لي بنسخة يومية بشكل دائم.
في قاعة المحاضرات، كنت أستغل فترات الاستراحة لتصفّح الجريدة. وكانت مواضيعها الشيّقة تجذب أنظار عدد من الطالبات والطلبة، وهو ما أثار حنق بعض عناصر ما كان يُسمّى بـ 'الاتحاد اللاوطني لطلبة العراق'. بدأوا يضايقونني عمداً، وفي أحد الأيام تمادوا فمزّقوا الجريدة أمامي وأمام الزملاء، في مشهد مقصود ومهين.
لكنني لم أتراجع. واصلتُ قراءتها كل يوم، في المكان نفسه، كمن يدافع عن حقه في التفكير العلني.
لم يكتفِ أزلام الاتحاد بذلك، بل دبروا مكيدة ضدي وضد زميل وزميلة آخرين، متّهمين إيانا زوراً بإثارة البلبلة أثناء المحاضرات، بحجة أننا نناقش الأساتذة بأسلوب غير لائق. لكنها، في الواقع، كانت مناقشات علمية موضوعية، طالما شجّع عليها بعض الأساتذة المستنيرين."
نتيجةً لذلك، قرّر نائب عميد الكلية ـ وكان من البعثيين المُتشددين ـ فصلنا نحن الثلاثة لمدة شهر، ومنعنا من دخول المحاضرات، رغم أنه لم يكن في نظام الجامعة أي بند يُبرّر هذه الخطوة القمعية. لقد كان الهدف واضحاً: إسكات الصوت المختلف، وكسر إرادة طلابٍ لم ينحنوا.
بعد فترة من استئناف الدراسة، قامت أستاذة مُحاضِرة (أكملت دراستها في أمريكا) بتوزيع قصاصات ورقية على الطالبات والطلبة، طالبةً منا أن ندوّن اسم الزميل أو الزميلة الأكثر ارتياحاً وشعبية بيننا جميعاً. أسفرت النتائج عن فوز إحدى الطالبات الكورديات، وحصولي على أعلى نسبة من الأصوات، وهو ما أثار مجدداً غضب معسكر البعثيين. لقد كان هذا التصويت بمثابة تزكية قوية لنا، وإشارة ضمنية إلى ضرورة الكف عن التحرش بحاملي طريق الشعب.
في سنتنا الدراسية الأخيرة، كنا نحن مجموعة من طلبة القسم على علاقة طيبة مع أحد أساتذتنا الجامعيين، وهو دكتور أنهى دراسته في ألمانيا الاتحادية. كان لقبه 'العبيدي'، وقد تميّز بدماثة الخلق والتعامل الودود، وكان دائم الإصغاء لنا، يحترم آراءنا ويشجع على النقاش المفتوح.
رغم انتمائه لحزب البعث مُكرَهاً ودون قناعة، كان لا يُخفي امتعاضه من ممارساتهم ونهجهم البائس. وفي إحدى محاضراته التي تناول فيها موضوع العلاقات الجماهيرية من منظور علم النفس الاجتماعي، مدعومة بالأمثلة الحية، أشار أمام الجميع ـ وخصوصاً أمام أزلام الاتحاد الوطني ـ إليّ بالاسم، مشيداً بامتلاكي لسمات 'القائد الجماهيري'.
كانت تلك لحظة فارقة، لم تأتِ من فراغ، بل كانت ثمرة ما تعلمناه من الحزب، ومن تقاليد شعبنا النضالية العريقة وروحه الجماعية الجميلة.
كنا مجموعة من ثلاثة إلى أربعة رفاق وأصدقاء، نقوم بجولات ميدانية في مناطق عمل الكادحين، ندوّن ملاحظاتنا عن معاناتهم ومطالبهم وشروط تحسين واقعهم المعيشي. كنا نعدّ تقارير مُفصلة تُرسل إلى صفحة 'حياة الشعب' في الجريدة، إلى جانب مواد أخرى تتعلق بالحياة الجامعية وأوضاع بيوت الطلبة.
وفي إحدى المرات، أعددنا تقريراً مطولاً، وحملناه بأنفسنا إلى مقر مجلة (الثقافة الجديدة)، التي كانت تقع آنذاك في ساحة التحرير. هناك، استقبلنا الصحفي اللامع أبو كاطع (شمران الياسري) بودٍّ دافئ وابتسامة مشرقة لا تُنسى.
كنا نلتقي أيضاً في مقاهٍ شعبية وقريباً من جالسيها الكُثر، واضعين طريق الشعب، الثقافة الجديدة بتعمدٍ على الطاولة مع استكانات الشاي، نناقش حياة الناس ومعاناتهم وما يمسهم، كانوا يسمعوننا وأحياناً كثيرة يشاركوننا أطراف الحديث، وكنا نتعمد بترك الجريدة لهم على الطاولة.
في فترة الخدمة العسكرية الإلزامية، وعلى الرغم من أنني قضيت نصف مدتها ضمن فريق كرة القدم التابع لوحدتنا العسكرية، لم أتخلَّ عن شغفي بالقراءة، وكنت أُجازف بإدخال كتب وكراريس ذات طابع تقدمي. ذات يوم، أخبرني أحد المتطوعين بأن جندياً مُكلفاً، كان يهوى الرسم والقراءة، قد ألقي القبض عليه، ولم يلبث أن أُعدم بتهمة الانتماء إلى الشيوعية، وكان ذلك في زمن التحالف المزعوم، وما سُمي "بالجبهة الوطنية".
أما طريق الشعب، فكانت وما زالت متميزة بصدق جذورها الوطنية، وبتمثيلها الحقيقي لمختلف مكونات المجتمع، مع روحها الأممية التي تربط قضايانا بالعالم، وتُشركه معنا في همومنا المشتركة. لم تترك حقلاً من حقول الحياة إلا وخاضته بقلمها، من الأدب والشعر، إلى العلوم، وصفحات النساء، والشبيبة، والرياضة، والأطفال. لقد كانت بحق صحيفة من طراز رفيع، متقدم ومتين.
اتسمت صحافة الحزب وإصداراته المتنوعة بالتجديد الدائم، وبقدرتها على إثارة العقل وتحفيز الفكر. وها نحن اليوم، ونحن نحتفل بالذكرى التسعين لطريق الشعب، أراها ما تزال شابة، مُتجددة، حيّة. صحيفة الناس وسيرة وطن في ورق سلاماً لكِ، وأنا أخاطبكِ في كل الأوقات... صباح الخير... مساء الخير.