اخر الاخبار

بناءً على الاكتشافات العملية الجديدة في تلك الحقبة التاريخية برزت محاولات متعددة لحل مشكليَّة التضاد بين الوعي والمادة، من تلك المحاولات ما عُرِف بالمذهب الطاقوي الذي أسسه أوستفالد حيث أرجعَ التضاد بين الوعي والمادة إلى مبدأ من خارجهما، هو الطاقة، أي الحركة من دون مادة، بهدف الوصول إلى فصل الفكر عن الواقع (المادة). هنا طرح لينين سؤاله على المذهب الطاقوي: بما أن الطاقة مقياس للحركة، وبما أن العالم حركة فما الذي يتحرك في هذه الحال؟. كما طرحَ السؤال التالي: “هل الطاقة مادية؟ أيجري تحول الطاقة خارج وعيي، بصورة مستقلة عن الانسان والانسانية، ام ان هذا مجرد افكار، رموز، علامات اصطلاحية [مواضعة convention] (…)، وعلى هذا السؤال بالذات كسرت الفلسفة ”الطاقية“ رقبتها”  (المصدر نفسه، ص 348). وقد أتاح تعريف لينين الواسع للمادة وضع أسس النقد لـ “المثالية الفيزيائية” بمختلف تياراتها، انطلاقاً من أنه “يفتح سبيلاً للتوفيق بين المذهب المادي ونتائج الفيزياء الحديثة فالجوهر لا يتلاشى، وإنما ينفرط بناؤه الى اجزاء أخرى أصغر منه كهارب وأيونات. والكهرب لا يفنى، وإنما يتحول الى طاقة. وذلك أن المادة والطاقة عند الماديين الجدليين صنوان لا يكون أحدهما بدون الآخر، ولا منفصلا عنه (…). وهكذا تبدو الطاقة والساحة [المجال] ضرباً من المادية بالمعنى العام إلى جانب المادة بالمعنى الخاص” (اليافي عبد الكريم، تقدم العلم، مطبعة جامعة دمشق، لا. ط، 1964. ص. ص. 245-246).

نقد نفي السببية الموضوعية والوجود الموضوعي للزمان والمكان

في مبحث “السببيَّة والضرورة” نقدَ لينين نفي السببية الموضوعية، حيث أنكرَ ماخ السبب والمسبّب في الطبيعة وقال: إنَّ لا وجود لأية ضرورة في العالم الفيزيائي سوى الضرورة المنطقية؛ أي العادة، وهو مفهوم قال به هيوم يعكس فيه الذاتية؛ على هذا الأساس استخلص بوانكاريه قوانين الطبيعة، بما فيها القانون القائل إن للمكان ثلاثة أبعاد –، من “الملاءمة” وأخذه بمفهوم البساطة؛ أما كارل بيرسون فاعتبر أن قوانين العلم هي نتاجات العقل البشري أكثر بكثير مما هي وقائع العالم الخارجي، وأن الضرورة تعود إلى عالم المفاهيم وليس إلى عالم المدركات؛ في الخط المثالي نفسه اعتبر بوانكاريه أن “الواقع الوحيد الذي يمكن وصفه بأنه موضوعي هو العلاقات بين الأشياء، التي ينتج عنها الانسجام الكلي (…). وكل ما ليس بفكرة هو عدم محض لأننا لا نستطيع التفكير إلا في الفكرة”. (نص بوانكاريه مأخوذ من كتاب: الجابري محمد عابد، مدخل إلى فلسفة العلوم….، مرجع سابق ص. 459. وهو بعنوان “القيمة الموضوعية للعلم”، النص المترجم موجود في قسم النصوص من كتاب الجابري). آراء نقدها لينين بتحديده أن الاختلاف بين المادية والمثالية لا يعود إلى الدقة في وصف العلاقات السببية أو التعبير عنها بمعادلات رياضية دقيقة، بل في مصدر معرفتنا أهو من الفكر أم من الواقع، وأن الصلة بين السبب والمسبب ليست ميكانيكية بل ديالكتيكية، هنا أعادَ لينين، في هجومه المضاد على التأويل الوضعي للاكتشافات العلمية (والفلسفة المثالية)، التذكير بتحليل انجلز للسببية، في كتابه “انتي دوهرينغ” بأن “السبب والمسبَّب هما تصوران لا يتسمان بأهمية مأخوذين بذاتيهما، الا شرط تطبيقهما على كل حالة بمفردها؛ ولكن ما ان نبحث هذه الحالة بمفردها في صلتها المشتركة مع الكل العالمي بمجمله، حتى يتلاقى هذان التصوران ويتشابكان في تصور التفاعل الشامل الذي تتبادل فيه الاسباب والمسببات اماكنها باستمرار”. (لينين فلاديمير، المختارات مج 4، مصدر سابق، ص. 196).

نقد مفهوم المعرفة المطلقة المثالي وإنكار الوجود الموضوعي للمادة

في نقده للمعرفة المطلقة، بهدف الهجوم على المادية باسم النسبية، نفى ماخ الوجود الموضوعي للزمان والمكان بقوله: إن الزمان والمكان لا يوجدان إلّا في ذهن الإنسان، (هذا الشكل من النفي يعرف بالمذهب الذاتي)، وطالب بالبحث عن الالكترونات خارج المكان الواقعي. تصدى لينين لهذا النقد بتأكيده أن “تغير التصورات البشرية عن المكان والزمان قلما يدحض الواقع الموضوعي لهذا وذلك، مثلما تغير المعارف العلمية عن بنية واشكال حركة المادة لا يدحض الواقعية الموضوعية للعالم الخارجي” (لينين فلاديمير، المختارات مج 4، مصدر سابق، ص. 222). وانتقد أيضاً مفهوم بوانكاريه للزمان والمكان الذي اعتبر انهما مفهومان نسبيان ليصل إلى أن ليس الطبيعة هي التي تعطينا مفهوم الزمان ومفهوم المكان بل نحن الذين نعطي الطبيعة إياهما بناء على مفهومه للملاءمة والبساطة، هذا الرأي انتقده لينين بتحديده أنه على المذاهب الفلسفية أن تحدد ما هو الأوّلي الطبيعة أم الوعي. وقد بين لينين الفرق الرئيس بين المادية والمثالية، وفقاً للمنهجية المادية الديالكتيكية، بأنه “يتجسد في اعتبار احساس الانسان، ادراكه، تصوره، وعيه على العموم صورة عن الواقع الموضوعي. فان العالم هو حركة هذا الواقع الموضوعي الذي يعكسه وعينا. وحركة التصورات، والمدركات، والخ… تناسبها حركة المادة خارجاً عني. ان مفهوم المادية لا يعبر عن شيء عدا الواقع الموضوعي المعطى لنا في الاحساس. ولهذا يعني فصل الحركة عن المادة فصل التفكير عن العالم الموضوعي، فصل احساساتي عن العالم الخارجي، أي الانتقال الى جانب المثالية”. (المصدر نفسه، ص. 343).

يتضح من خلال ما تقدم تمييز لينين بين مادية ميكانيكية ميتافيزيقية من ناحية، ومادية ديالكتيكية نقيضة لها من ناحية ثانية، انطلاقاً من نقد انجلز للميكانيكية الميتافيزيقية، فقد ميز لينين المادية الديالكتيكية بأنها تؤكد الطابع النسبي لكل معرفة علمية وتؤكد “انعدام الحدور [الحدود] المطلقة في الطبيعة، على تحول المادة المتحركة من حالة الى أخرى، متنافية معها” (المصدر نفسه، ص. 336)، وأنه “مهما كان انعدام اية كتلة عند الالكترون عدا الكتلة الكهرمغناطيسية ”غريباً“، ومهما كان اقتصار القوانين الميكانيكية للحركة على ميدان ظاهرات الطبيعة وحدها، وخضوع هذه القوانين لقوانين اعمق هي قوانين الظاهرات الكهرمغناطيسية، الخ..، غير عادي، فان كل هذا هو مجرد تأكيد آخر على صحة المادية الديالكتيكية”  (المصدر نفسه، ص. 336).

في نقده هذا أظهرَ لينين كيف انحرفت الفيزياء نحو المثالية لأنها لا تعرف الديالكتيك، فقد انتقد فيزيائيو المادية الميتافيزيقية، ميكانيكيتها وحيدة الجانب، هنا يضيء لينين على نقد انجلز للمادية الميكانيكية الميتافيزيقية، ويميزه عن النقد الوضعي والهيومي (المثالي) للمادية الميكانيكية الميتافيزيقية، حيث بنقدهم لها وانكارهم لثبات العناصر وخواصها انزلقوا إلى إنكار المادة، إنكار واقعية العالم الفيزيائي، وبإنكارهم الطابع المطلق للقوانين الأساسية انزلقوا إلى إنكار كل سنة موضوعية في الطبيعة، انزلقوا إلى إعلان “قانون الطبيعة اصطلاحاً [مواضعة] صرفاً، ”تحديداً للتوقع“، ”ضرورة منطقية“(…). وبما انهم اصروا على طابع معارفنا التقريبي، النسبي، فقد انزلقوا الى انكار الموضوع المستقل عن المعرفة، والذي تعكسه هذه المعرفة بصورة صادقة تقريباً، بصورة صحيحة نسبياً”. (المصدر نفسه، ص337). في تحديد لينين للمادية الديالكتيكية ومفهوم علاقة الذات بالواقع ووجود الواقع الموضوعي يتضح معنى “ما أسماه لينين المادية الإبستيمولوجية، أعني الإقرار بأن هناك عالماً موضوعياً مستقلاً عن الذاتية الإنسانية أو أي ذاتية أخرى تتخيلها الفلسفة، وأن العلم يسعى الى معرفة بنى هذا العالم وسيروراته وعلاقاته من دون فرض تصور مسبق عنها”. (غصيب هشام، جدل الوعي العلمي إشكالات الإنتاج الاجتماعي للمعرفة، ط 1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان الأردن، 1992، ص. 145).

وفي ضوء المنهجية المادية العلمية التي انتقد فيها المثالية وتأويلها للاكتشافات العلمية لنفي الوجود الموضوعي للمادة انتقد لينين سعي ما يسمى “الخط الثالث” للجمع بين المذهب النقدي التجريبي (الامبيريقي) والماركسية، وقد خصص له الفصل السادس من كتابه “المادية والمذهب التجريبي النقدي”، بتأكيده في خاتمته أن تلك المحاولة لا يمكن أن تتم إلّا في حال “الجهل المطبق بصدد ماهية المادية الفلسفية على العموم وبصدد ماهية طريقة ماركس وانجلس الديالكتيكية”(المصدر نفسه، ص. 460).

يتضح في جانب مما تقدم من نقد لينين مسألة فلسفية محورية في نتاجه الفلسفي نُعيد التذكير بها بشكل مكثف وهي مفهوم لينين للعلاقة المادية الديالكتيكية بين المادة والوعي، وتحديده لمفهوم أسبقية المادة على الوعي، والتضاد بينهما، وذلك انطلاقاً من مفهوم العلاقة المادية الديالكتيكية بين الأضداد ووحدتهما، فالتضاد بين المادة والوعي لا ينفصل في وحدتهما حتى وإنْ افترضنا أسبقية المادة على الوعي، لأن الفهم الميكانيكي للتعارض بينهما والقول بالأسبقية الميكانيكية للمادة على الوعي يؤدي إلى الثنائية Dualism الميكانيكية التي انتقدها لينين بتركيزه على العلاقة المادية الديالكتيكية بين المادة والوعي، هنا يكمن عصب نقده للمذاهب المثالية وللمادية الميكانيكية.

فلاديمير لينين صاحب المقولة الشهيرة “لا نظرية ثورية من دون ممارسة سياسية ثورية” وضع الأسس الفلسفية لتلك المقولة – البوصلة والعلاقة المادية الديالكتيكية بينهما، وجعل الفلسفة أداة من أدوات النضال الثوري، في هذه الإضاءَة السريعة على جانب من نتاج لينين الفلسفي، تتضح منهجيته المادية العلمية في كشف ليس الخلفية الأيديولوجية للفلسفة المثالية فقط، بل وإنتاج البديل الثوري النقدي والنقضي لها. ليتحد كل الكادحين بأيدهم وأدمغتهم، على امتداد أرض الإنسان، في النضال ضد النظام الرأسمالي الإمبريالي والاحتلال لتجذير النضال الوطني التحرري المقاوم انطلاقاً من الشعار اللينيني “يا عمال العالم ويا أيتها الشعوب المضطهدة اتحدوا”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*سكرتير تحرير منصة "تقدم"

منصة "تقدم" – 21 كانون الثاني 2025

عرض مقالات: