اخر الاخبار

إن كنت أنسي شيئا من ذكريات طفولتي المبكرة، فلا أنسى كلمات والدي التي كان يرد بها على إلحاحي ان يشتري لي شيئا هنا وحاجة هناك. لم يكن ميسور الحال، فكل ما كان يملك دكانا صغيرا في ناحية قصية منسية. لذلك لم يكن قادرا على شراء ما أريد وأطلب. وعندما ألححت عليه أول مرة، التفت اليّ منتهراً بلهجته البغدادية: "لك بابا انت ابن مَن؟ ابن النواب؟!". عندها لذت بالصمت وإن لم افهم تماما ما يعني.

وتكرر الأمر مرة وأكثر. ومع تكرار طلباتي وتكرار رده، ومع نموّ إدراكي تدريجيا، كففت عن المطالبة بما لا قِبل للوالد بشرائه. لكن ظل حيّا في ذاكرتي ما كان يقوله هو ويضيفه خيالي الطفلي عن ثراء آل النواب ومكانتهم الاجتماعية.

منذ ذاك الوقت المبكر انطبعت في خيالي صورة زاهية لـ "ابن النواب". وبالطبع لم يتخيل حتى الوالد وقتها، أن ولده النحيف الذي يكتب الآن هذه السطور، سيجد نفسه يوماً مع ابن النواب، يعيشان معا في مكان واحد وتحت سقف واحد!

حيث دارت عجلة الزمن وكبرتُ أنا لأجد نفسي في ثانوية العمارة، طالبا اتحادياً وشيوعياً نشطاً. حينها جاء ابن النواب إلى العمارة وحلّ ضيفا على نقابة المعلمين فيها، ثم سافر إلى الميمونة وأهوارها. وقد علمت ذلك حينها من بعض رفاقي وأصدقائي أبناء المنطقة الراحلين اليوم: حسب الشيخ جعفر وخلف جودة الإزيرجاوي وغيرهما.

واستمرت عجلة الزمن تدور.. في عام ١٩٦٢ اعتقلت في بغداد واودعت سجن الموقف العام في القلعة السادسة، وبقيت هناك حتى حلت ساعة ما سماه المتآمرون "عروس الثورات" في ٨شباط ١٩٦٣، التي ما كانت سوى عاصفة إرهاب سوداء على العراق والعراقيين. حينها جيء بآلاف المعتقلين إلى الموقف العام ومن بينهم صديق "ابن النواب" سعدي الحديثي، وإلى القلعة السادسة إياها! وبعد شهور أطلق سراحه لحين المحاكمة.

وفي تلك الآونة سمعت من المعتقلين من أبناء الكاظمية، ممن ساهموا في مقاومة الانقلاب، عن بطولة سعيد متروك واستشهاده، وعن دور مظفر النواب وإفلاته من القتلة.

 وبعد دورة أخرى لعجلة الزمن أسقط البعثيون العفالقة شريكهم غير مأسوف عليه. ومعروفة بعد هذا قصة هروب مظفر النواب إلى إيران، ووقوعه في أيدي السافاك مع آخرين، ثم تسليمهم للسلطات العراقية أيام حكم عبد السلام عارف عن طريق البصرة.

بعدها جيء بمظفر إلى مدينة العمارة، وفيها سيق إلى حيث كان شقيقاي معتقلين في مركز شرطة الماجدية، وهناك أمضي ليلة واحدة إلى جانب أخي الاصغر رزاق والأكبر منه عبد الخالق، وهما يتذكران أنه غنى تلك الليلة من طور المحمداوي! وفي اليوم التالي سُفّر إلى بغداد، فلم تكن هناك دعوى سجلت ضده في العمارة.

في ربيع ١٩٦٤ حكم علي المجلس العرفي العسكري الثالث بالسجن عشر سنوات مع الاشغال الشاقة، وسُفّرت على الفور إلى سجن السلمان، حيث اصبحت من سكنة القاووش عشرة!

وبعد أيام جيء بمظفر النواب، لينسب معنا إلى نفس القاووش، شأنه شأن صديقه الحميم سعدي الحديثي!

 وأتذكر هنا اخي الثالث حافظ، الذي شارك مظفر النواب، على ما يبدو، حبه لأهوار الميمونة. ففي أعقاب انقلاب شباط مباشرة توجه إلى هناك، حيث كان مسؤول منظمات الحزب في أرياف لواء (محافظة) العمارة. وفي فجر 3 تموز ١٩٦٣، يوم انتفاضة تموز، داهمته وثلة من الرفاق الفلاحين قوة مشتركة من الحرس القومي والأمن والشرطة، فرفد الهور بدمه مستشهدا في منطقة "ابو نعيجة" وهو يقاتل تلك القوة، فيما أفلت الرفاق الآخرون.

في أواخر عام ١٩٦٤ او بداية ١٩٦٥ قررت منظمة الحزب في سجن السلمان أن تمنح الديمقراطية فرصة، فأعلنت عن انتخاب الهيئات الإدارية في "القواويش" - الردهات- والقلعة القديمة (في السجن عشرة قووايش، والقلعة هي البناء الأقدم الذي صمم لصد هجمات الوهابيين، وقد أصبحت كلها من نصيبنا).

 في القاووش رقم عشرة ترشح مظفر النواب والفريد سمعان وآخرون - جلّهم أسماء معروفة ولامعة. وكانت الديمقراطية، على ما بدا لي، تحتاج إلى” دفعة" من المنافسة، وبالفعل جاءني أحد الرفاق طالبا منى الترشح لعضوية الهيئة الادارية. كنت أعرف أنني لن افوز في المنافسة مع تلك الاسماء اللامعة.. لكن ذلك كان ضروريا. وخلاصة القول إني رشحت منافساً لـ "ابن النواب"، وطبيعي ان ابو عادل هو من فاز عضواً في الهيئة الادارية، فيما غدا ابو شروق - الفريد سمعان، سكرتيرها.

في سنوات لاحقة كنت اتذكر أيام السجن تلك، وأقول مع نفسي متسائلا: ألم نكن في جانب منها على الأقل من المحظوظين؟ تصوروا أنفسكم تقاسمون ابو عادل العيش اليومي، على كل سوءات حياة السجن وصعوباتها، وتصوروه يتحفكم ولا يملّ من أشعاره وقراءاته وغنائه.

وما زال صوته يرن في اذني وهو يصدح:"بهييييمه وننكل الجدمين آنه وياك" مطيلاً الياء وماطّا اياها، كما لو كان يريد ان يرسم الهيمة صحراءَ ممتدة! او حين يطلق الصوت قويا: "يسعود إحنه عيب انهاب يا بيرغ الشرجية" مضخماً "عيب انهاب"، دامجاً في "عيب" المعنيين: النفي والعيب!

اما "البيرغ" فلم يكن يلفظه الا هكذا، مثلما يفعل ابناء الهور والجنوب، وليس "بيرق" كما تقول الفصحى.