اخر الاخبار

إحدى القصص البارزة في السياق الألماني هي معركة لايبزيغ عام 1813، حيث تحالف الألمان مع قوى أخرى لهزيمة نابليون. بعد المعركة، بدأ الألمان يشعرون بأنهم أمة واحدة رغم تفرّقهم بين دويلات مختلفة. هذه اللحظة ساعدت في تعزيز فكرة القومية الألمانية. كما قال المؤرخ إرنست نولتي: «كانت معركة لايبزيغ نقطة انطلاق لتخيل الأمة الألمانية كوحدة واحدة».

من الأهمية بمكان أن نطرح السؤال الفلسطيني الخاص: أين نحن.

بدلًا من السؤال التقليدي من أين نحن...؟؟، إذ يكشف هذا السؤال عن بُعد فلسفي يكاد يكون غائباً عن الفهم السائد للهوية. فالسؤال الأول، في جوهره، يوجه الأنظار إلى الحاضر والمستقبل، ليتجاوز بذلك الفكرة الرائجة التي ترى أن الهوية هي نتاج نقطة انطلاق ثابتة أو «لحظة صفرية» في التاريخ؛ هذه الفكرة، التي تُسهم في إعادة إنتاج أسطورة الأصول الثابتة والجزئية للهويات، تتجاهل تماماً الطابع الديناميكي والكوني لتطور الهويات الثقافية.

في الحقيقة، نجد أن الفكرة السائدة التي تتبنى التعايش بين الهوية الوطنية والهوية العربية والهوية الإسلامية تحمل إشكالية في تفسير الهوية الفلسطينية بمعزل عن هذا الانصهار، إذ إن الهويات العربية والإسلامية تظل تعبيرات عن سياقات سياسية ودينية ثقافية أوسع، تتعلق بمفهوم الأمة ككل، مما يجعل الهوية الفلسطينية تضيع في محيط هذه الانتماءات الكبرى.

لكن، إذا نظرنا إلى المسألة الفلسطينية كـ (عرقية ثقافية) من زاوية سياسية وفكرية تُعنى بالبناء القومي بعيداً عن الأبعاد العربية والإسلامية، فإننا ندرك أن فلسطين، باعتبارها مفهوماً ثقافياً وجغرافياً، تستحق أن تُفهم في إطار مشروع «أمة خاص بها / عرقاً ثقافياً متكاملاً» يؤرخ لبداية جديدة غير مرتبطة بمفاهيم الهوية التي كانت سائدة في السياقات الإقليمية الكبرى.

إنّ الفكرة القومية أو العرقية الثقافية لا تتشكل إلا من خلال «تخيّل اجتماعي»، كما يقول بندكت أندرسون في كتابه (الجماعات المتخيلة) بالنسبة لأندرسون، فإن القومية ليست مجرد تفاعل طبيعي بين أفراد جماعة ما، بل هي «تخيل» اجتماعي يُبنى باستخدام أدوات واقعية مثل التعليم، وسائل الإعلام، والنظم السياسية والثقافة والانتماء؛ وتؤكد هذه الفكرة أن الوعي الخاص لا يولد من واقع ملموس في بداية الأمر، بل من قدرة الأفراد على تخيل أنفسهم كوحدة واحدة ذات تاريخ مشترك ورؤية جماعية لمستقبلهم. وهذا ما يجعل من الهوية الفلسطينية، على الرغم من تجذرها في الأرض والذاكرة، هوية متخيلة بمعنى أنها تتجاوز اللحظة الواقعية إلى خلق صور مشتركة للمستقبل، يصوغها الشعب الفلسطيني في مواجهة تحدياته، عبر إنجاز الانتماء.

وفي هذا السياق، يتجسد ما قاله رشيد الخالدي حين أكد أن « الهوية الفلسطينية لم تكن مجرد رد فعل على الاحتلال أو الهويات الأخرى، بل هي هوية متطورة تراكمت من خلال تجربة تاريخية مشتركة، وجغرافيا واحدة، وشعور جماعي بالانتماء إلى أرض وتاريخ وحضارة، مما يجعلها مختلفة عن أي هوية أخرى »  هذه المقولة توضح بشكل دقيق أن الهوية الفلسطينية ليست مجرد رد فعل سياسي، بل هي نتيجة لتراكم تاريخي وجغرافي يميزها عن الهويات الأخرى، مما يساهم في تشكيل تصور فلسطيني متفرد يعكس تفاعلًا مستمرًا مع الواقع والتاريخ في بناء الأمة، ويؤكد الحق في الانعتاق الذاتي .

من هنا، يمكننا أن نتذكر اللحظة التي اقترح فيها نجيب عازوري في عام 1908 توسيع سنجق القدس ليشمل فلسطين الشمالية، مستشرفاً بذلك ضرورة تجميع الأرض لتأسيس هوية وطنية فلسطينية مستقلة. هذه الفكرة كانت بمثابة نواة لتصور فلسطيني مميز، يخرج عن سياقات الهوية العربية أو الإسلامية في ذلك الحين، ويُؤسس لفكرة وحدة الأرض والشعب، حيث قال: «إنّ فقدان الدولة، ومن ثم فقدان مشروع لبناءِ الأمّة، قد عوّقا نمو هوية فلسطينية محددة مرتبطة بالأرض».

هذه الفكرة يمكن أن تجد سنداً تاريخياً في العديد من السياقات الأوروبية، حيث تطور مفهوم القومية من خلال أفكار متخيلة. ففي أوروبا القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، كان «التخيل القومي» هو القوة المحركة وراء العديد من الحركات الوطنية، مثل الحركة الألمانية أو الإيطالية.  في حالة ألمانيا، على الرغم من أن الشعب الألماني كان يشترك في اللغة والثقافة، إلا أن فكرة الأمة الألمانية لم تتحقق إلا بعد أن قام المفكرون مثل يوهان جوتفريد هيردر بتشجيع الألمان على «تخيّل» أنفسهم كوحدة واحدة، بعيداً عن الحدود الإقطاعية والدويلات؛ وبالمثل، في إيطاليا، كان تأكيد الهوية الإيطالية – رغم تباين الثقافات المحلية – يعتمد على «تخيل» شعور بالأمة الموحدة التي تجاوزت العصبيات الإقليمية.

يمكننا القول إن الفكرة الفلسطينية، في ادعائها، تسير على نفس المنوال، صحيح أن فلسطين كانت دائماً جزءاً من ثقافات إقليمية ودينية متنوعة، ولكن الانطلاق نحو هوية فلسطينية متخيلة يفتح الباب لتخيل الأمة الفلسطينية كوحدة ثقافية وجغرافية متميزة. وكما رأينا في أوروبا، فإن «التخيل القومي» يمكن أن يتجاوز العوامل البيئية واللغوية الدقيقة ليؤسس لواقع سياسي جديد يخلق انتماءً جماعياً ووعياً قوميّاً متميزاً.

وعليه، يجب أن يتم تعزيز فكرة الهوية الفلسطينية ليس من خلال المزاوجة مع الهويات الأخرى، بل عبر تعزيز الوعي بفلسطين كأمة مستقلة لها تاريخها الخاص، وكذلك مشروعها السياسي المميز الذي يعكس تطلعات شعبها لإنجاز مشروع الدولة المستقلة.

الهوية الفلسطينية، إذن، ليست مجرد إرث ماضوي تقليدي، بل هي خط واضح في عملية التخيّل الاجتماعي، حيث يتم تشكيلها عبر أدوات واقعية، وتُدرك في (السياسة، في الأدب، في الاقتصاد) وفي الخطابات اليومية التي تروج لصور جديدة من المستقبل الفلسطيني.

ــــــــــــــــــ

* كاتب فلسطيني