في واحدة من ليالي عيد الميلاد قبل ستين عاماً (١٩٦٤) التقى بضعة من سجناء نكرة السلمان تحت سقفها. كانوا اربعة رفاق: خلف جودة العيسى الإزيرجاوي الذي رحل عنا عام 1970، وخضير عباس محمد الذي تجاوز العقد التاسع، وأنا كاتب هذه السطور، ونجم اللقاء كاظم معتوق، عامل الميكانيك البصري، الذي أنهى في مطلع الستينات دورة خاصة لإصلاح سيارات المرسيدس في ألمانيا لدى شركة مارسيدس- بنز، والذي آمل ان يكون حياً بعد هذا الدهر المتخم بالغث من الأحداث.
كاظم كان هو محدثنا اللبق، يروي لنا عما عاشه في أعياد الميلاد ورأس السنة في ذلك البلد الأوربي. كان يتذكر الليالي الحلوة التي عاشها في تلك المناسبات، والكلمات تتدفق من بين شفتيه وعيناه تسرحان في الماضي، بينما يطفح محياه بالغبطة والسرور في الضوء الشاحب لمصباح مضطرب، وهو ينتقل إلى الحديث عن حمامات "بادن بادن" الألمانية الشهيرة للمياه المعدنية، وعن عوالم تضج بالخضرة والحياة، غير عالم صحراء السلمان ونقرتها المقفرة المغبرة، التي يعز على المرء أن يرى في سمائها عصفورًا أو حتى غراباً أو بومة!
اخذنا رفيقنا إلى عوالم لم نر مثلها أبداً وكنا نسمع عنها لا أكثر. وكانت تلك أول مرة أسمع فيها شخصيا عن أعياد الميلاد ورأس السنة البهية والبهيجة. وحينما حل منتصف الليل تمنينا لبعضنا عاماً جديدا سعيداً حقا، ولشعبنا الخلاص من الدكتاتوريات الظالمة المتعاقبة.
في أواخر عام 1966 جيء لي في سجن النكرة ببطاقة معايدة باللغة الانجليزية باسم فرج عبد الله او عبد الله فرج، وصلت من منظمة العفو الدولية التي تهتم بسجناء الفكر وضحايا القمع، وذلك في غفلة تامة من سلطات البريد ومن سلطات السجن ايضا. ولم يكن أحد من رفاقنا في السجن بهذا الاسم، وكان عليّ الإجابة عليها. فكتبت للمنظمة رسالة قلت فيها ربما يكون المعني قد خرج من السجن أو انتقل إلى سجن آخر، وشكرتهم على الاهتمام بقضايا السجناء السياسيين، وأعلمتهم بأني سجين مثله وأدرجت اسمي وعنوان نكرة السلمان. وما أن اقتربت أعتاب العام التالي حتى تلقيت سيلاً من المعايدات من أعضاء المنظمة: من نيوزيلاندا واستراليا شرقاً حتى كندا وأمريكا غرباً مروراً ببريطانيا وأوربا، من محامين وأساتذة جامعات ومعلمين ذكوراً وإناثاً ومن ربات بيوت، من مختلف الأعمار والمشارب، من بينها بطاقة يتيمة من براغ التي كانت تعيش مطلع ربيعها المعروف سنة 1968.
آنذاك كان عدد كبير من سجناء السلمان قد نقلوا إلى سجن الحلة وسجون أخرى، وأخلي سبيل من أنهى محكوميته منهم، وبقي ما يربو على 300 من " ولد الخايبه" المغضوب عليهم. حينها أصبح القاووش (الردهة) رقم (2) خالياً، فعمدت، بالاتفاق مع قيادة السجن الحزبية، إلى إقامة معرض فيه لبطاقات المعايدة المذكورة، التي كانت، وإن وردت باسمي، إلا أنها تخص السجناء جميعاً. فكان ذلك حدثاً أشعرنا جميعاً بأننا لسنا بعد طي النسيان!
وتدحرجت الأيام وانتهت محكوميتي (عشر سنوات) في أواسط تموز 1967، ولكن السلطات لم تطلق سراحي، وبقيت أدور بين الأمن العامة ودوائر أمن المحافظات والأقضية والنواحي، حتى انقضى أكثر من عام على التاريخ الرسمي لانتهاء محكوميتي. ولم يطلق سراحي إلا في أواخر ايلول عام 1968!
عقب إطلاق سراحي كتبت إلى سيدة دانيماركية عطوف من أعضاء العفو الدولية، كانت تراسلني في السجن، وقد عرضت في آخر رسالة أن تبعث الينا بعض الأدوية. لكني انقطعت عنها أزيد من عام أثناء التنقل القسري من أمن إلى أمن، كتبت إليها أشكرها وأخبرها بإطلاق سراحي. وفي موسم أعياد الميلاد ورأس السنة عشية العام 1969، جاءني إشعار من البريد المركزي في بغداد بأن رزمة وصلتني من الدانيمارك، فتوقعت أنها من تلك السيدة الأم لأربعة أبناء والجدة لستة احفاد. ذهبت لاستلامها فكانت حقاً من السيدة إياها "ايلا اليزنر"! فرحت بهذه اللفتة الانسانية الجميلة. وفي البيت فتحت الرزمة فاذا بها تحتوي كعكة عيد الميلاد!
كادت عيناي تدمعان والشعور العميق بالامتنان لهذا الموقف الانساني يغمرني، وأن كان التلف قد لحق بالكعكة جراء تأخرها في بريدنا وحرّنا الذي لا يطاق حتى في الشتاء، مع ان تلك السيدة النبيلة قد بعثتها بالبريد الجوي!
وقبل ان يحلّ عيد الميلاد التالي التقيت صدفة برفيق كان معتقلا معي في القلعة السادسة بالموقف العام في بغداد، رمزي بطرس. احتضنّا بعضنا وتبادلنا القبل، وأصر هو على أن أشاركه ووالديه عيد الميلاد. وهذا ما حدث بالفعل وكان ذلك أول يوم احتفل فيه بعيد الميلاد مع عائلة. كنت مرتبكاً لا أعرف العبارات المناسبة للتهنئة بهذا العيد! ولكني كنت سعيداً حقاً مع هذا الصديق وعائلته. وكرّت السنين وفي عيد رأس السنة عام 1983 كان احتفالنا في مقر الأنصار في بشت أشان بجبل قنديل الكردستاني، وفي تلك الليلة احتفلنا بزواج رفيقين من رفيقتين، ولم تكن لدينا سوى غرفة واحدة في قرية بشت اشان. فكان لا بد ان يتم الزواج بالتقسيط: الليلة نفسها لعريسين والتالية للعروسين الآخرين!
وبعد بضعة أشهر، أثناء العدوان الذي شنه علينا الاتحاد الوطني الكردستاني، وفي الكمين الذي نصبوه لنا، استشهد أحد الرفيقين المذكورين وهو يقاتل ببطولة، وأسرنا نحن الأكبر سنا ومعنا زوجته وحبيبته ورفيقته!
عيد ميلاد سعيد لكم جميعاً وكل عام وأنتم بخير!