تكاد الحروب والصراعات تتصدر عالمنا هذا، منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، وتترك تأثيرات سلبية مباشرة وغير مباشرة في المجتمعات التي تقع فيها. وأكثر ما تطاول الأطفال واليافعات والنساء، وفق تقرير مجلس الأمن الدولي رقم 1325 الذي جاء فيه أن الفئات المذكورة تشكل الأغلبية العظمى لأولئك الذين يتأثرون سلبا بالنزاع المسلح، وتظهر الدراسات أن التأثيرات السلبية للحروب التي تقع على الفئة المذكورة، تتشعّب بين اقتصادية ونفسية وصحية واجتماعية. وما يرصده كتاب "طفلات عربيات في أتون الحروب والنزاعات" الصادر عن "تجمّع الباحثات اللبنانيات" 2021-2022 - دار المعارف، يأتي في الإطار المذكور، ويضم عددًا من المقالات والأبحاث، لمجموعة من الكاتبات والأكاديميات، اللاتي سلطن الضوء على تجارب معيشة استقينها من قلب بيئتهن وعلى لسان أصحابها، لطفلات ونساء مراهقات واجهن إبان رحلة نزوحهن، بسبب الحروب، عنفا، وتمييزا جندريا، على أساس اللون والعرق والدين واللغة.
التاريخ الذكوري
في الجزائر بلد المليون شهيد، تغيب أصوات الطفلات والنساء الجزائريات، عن كتابة التاريخ، الذي وُضع من وجهة نظر ذكورية، وفق دراسة آمال قرامي، التي تستعرض فيها أسباب تغييب النساء عن هذه الكتابة، رغم أدوارهن الريادية في كلا الحربين، حرب تحرير الجزائر بين عامي 1954 و1962، وحرب العشرية السوداء في تسعينيات القرن العشرين. وتعود أسباب تغييب النساء عن كتابة التاريخ، وفق قرامي، إلى تعاضد مختلف القوى السياسية والاجتماعية ضد المرأة، إضافة إلى نظرة المجتمع البطريركي، الذي جهد ولا يزال في تحجيم دورها، إذ غالبا ما نظر إلى النساء على أنهن "ناقصات عقل"، فمُنعن من الإدلاء بشهاداتهن عما حل بهن في الحروب، كما غُيّبت الأنا في مقابلاتهن، واستُعين للدلالة على النساء بصفات تعميمية مثل (طفلات، طالبات، فتيات، معلمات).
ترصد قرامي التحولات التي شهدتها كتابة التاريخ، كتلك التي قامت بها عدد من الباحثات اللاتي كسرن حاجز الصمت، ووثقن شهادات "طفلات الأمس" اللاتي عشن الحروب وأصبحن "مسنّات اليوم". مع هذا التحول، أصبح بالإمكان وجود قراءة تاريخية حقيقية تستند إلى ذاكرة النساء اللاتي بُحن بما عشنه من مآس في الحروب. منهن من رأت بأم عينها كيف اغتُصبت والدتها جماعيا، ومنهن أيضا من حُرمت من الماء والغذاء. ثمة فتيات مُنعن من الإجهاض، وأخريات أُجبرن على زواج المسيار والمؤقت، فتيات لقين حتفهن بسبب التمرد على النظم المجتمعية والدينية. إنها شهادات تؤسس لكتابة تاريخ النساء في الحروب.
النزوح تحديات ومعاناة
تعاني النساء والفتيات المراهقات، في رحلة نزوحهن إبان الحروب التي تقع في بلادهن، من تحديات تندرج ضمن أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي. إذ تتبدل الأدوار في ظل انهيار الخدمات الاساسية وتقلص سبل العيش، وعادة ما يتوقع من الفتيات في الظروف المذكورة أن يتولين دور مقدمي الرعاية لأفراد الأسرة، كالقيام بالأعمال المنزلية أو تقديم المساعدة للمصابين، وفق ما ورد في بحث أعدته تغريد السميري، تضيء فيه على أحوال عيش المراهقين والمراهقات الذين يشكلون نسبة 3.41 في المائة، من مجموع السكان في قطاع غزة، وهي الفئة الأكثر معايشة للحرب. إذ أن هذه الفئة وُلدت على امتداد أربعة حروب (2008، 2012، 2014، 2021).
في النزوح، على الفتيات والمراهقات مراعاة العيش في البيئة الجديدة، إذ يُجبرن على الاحتشام، ويُمنعن من الخروج. أما الفتيات اللاتي كان من نصيبهن السكن في مدارس الإيواء، فإن معاناتهن تختلف، بين صعوبة الوصول إلى المرافق الصحية والحمامات النظيفة في كل الأوقات، وحيرة إخفاء أغراضهن الحميمة مثل الفوط الصحية وغيرها.
"قليل من كثير جاء في هذا الكتاب عما واجهته وتواجهه النساء من عنف واستغلال في الحروب، لا يتسع له مقال، ولعل ما ذُكر في بحث سعدى علوه يؤكد هذا الكثير، إذ لا يعرف أحد عدد "المراهقات أو النساء اللاتي لقين مصيرا قاتما وهن يهربن فرارا من الحرب وأهوالها""
عنف واغتصاب واستغلال اقتصادي
يبقى ما ذُكر أخبارا ضئيلة بالقياس إلى ما تعانيه المراهقات والنساء، في رحلة نزوحهن، هربا من الحرب، إلى أماكن ظننها أكثر أمنا لهن. إذ تتعاظم في هذه الرحلة هيمنة الذكور على الفضاء الذي تعيش فيه النساء. فهن يصبحن تحت إمرة الزوج والأخ والأب وقوانين المجتمعات المضيفة، وفق ما ورد في بحث أعدته سعدى علوه، ترصد فيه قصص عدد من النازحات بين لبنان وسورية والعراق عانين من العنف والاستغلال. إحداهن سحر التي هربت من جحيم الحرب في سورية، فتعرضت للاغتصاب من قبل المهرب الذي تقاضى من أهلها مبلغ 3000 دولار لقاء إيصالها إلى الحدود اليونانية. بينما لجأ والد ربى إلى تزويجها، وهي بعمر الرابعة عشرة، وقبض مبلغ 600 دولار من زوجها بدل مهر لها. ولم يلتفت أي من أهل ربى إلى ما عانته من استغلال وتعنيف من قبل زوجها ووالدته اللذين كانا يجبرانها على أن تنقدهما كل ما تحصل عليه من عملها في الحقل. كما أنها خضعت للاستغلال الاقتصادي من قبل والدها بعد طلاقها ونزوحها إلى لبنان، إذ فرض عليها، هو الآخر، أن تعطيه كل ما تتقاضاه من عملها في الزراعة في سهل عكار، بحجة نيته شراء منازل لإخوتها الذكور، الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و16 سنة.
شهادة سلمى العراقية تجسد هي الأخرى معاناتها والابتزاز الذي تعرضت له في رحلة نزوحها إلى بيروت، التي جاءت إليها غريبة، "وبقيت غريبة لغاية اليوم". واجهت سلمى مواقف صعبة، من بينها النظرة إليها ككائن هش وضعيف وقابل للاستغلال، إذ عُرض عليها العمل في الدعارة، وإقامة علاقات في مقابل حمايتها ومساعدتها.
التمييز القائم على النوع
واللون والعرق واللغة
يتشعب العنف القائم على النوع الاجتماعي بحق النساء في الحروب، إلى تمييز قائم على اللون والعرق واللغة والدين. وفي بحث أعدته فاطمة واياو تكشف فيه، عبر شهادات فتيات لاجئات قادمات من أفريقيا في جنوب الصحراء إلى المغرب، التمييز الحاد الذي واجهنه بسبب اللون، هذا التمييز الذي عززه وجود السوريات اللاتي كن أوفر حظا من النازحات الأفريقيات، مما سهل عليهن عملية الاندماج. تذكر واياو كيف عوملت الأفريقيات معاملة العبيد في المنازل التي خدمن فيها لدى مغربيات. واجهت طفلات ومراهقات منهن عنفا وتهديدا بالاتجار بهن، وفي أحيان كثيرة كان يتم بيعهن لمافيا الدعارة، وإرغامهن بهذه الطريقة على سداد دين المساعدة في رحلة النزوح.
الأطفال والتحرش الجنسي
لا جدال في أن التأثيرات السلبية للحروب أكثر ما تقع على الأطفال، من بينها الاستغلال والاغتصاب والتحرش. تبين بيا قزي في بحثها تزايد الاعتداءات الجنسية على الأطفال في تونس، بنسبة عشرة أضعاف خلال عشرية ما بعد الثورة، أي بين سنتي 2010 و2020. وصلت الحال إلى حد استخدامهم في الاتجار والدعارة وغيرهما. تعرض قزي نتائج دراسة قام بها فريق من الأطباء في قسم الصحة النفسية في العاصمة حول الملمح السريري والسوسيوديموغرافي للأطفال، تبيّن أن الفتيات اللاتي وقعن ضحايا الاعتداء الجنسي فاق الـ61 في المائة، وأن اعمارهن تراوحت بين السنتين والـ18عاما. خلصت الدراسة إلى أن المعتدين غالبهم من جنس الذكور وينتمون إلى عائلة الضحايا، بل إن نصفهم من الآباء.
الأطفال بين الاتجار والتبنّي وصوت الأمهات المكتوم
شكل آخر من الجرائم والعنف ضد الأطفال، أكثر ما ينشط في الحروب، ترصده زينه علوش في بحث أعدته حول تبني الأطفال في بلد مثل لبنان، كان ولا يزال مسرحا لحروب متتالية، وملجأ لنازحين ونقطة عبور دائمة. تعزز علوش بحثها بأرقام تكشف ضبابية مسألة التبني، التي هي في الواقع اتجار بهم، إذ بلغ عدد الأطفال في مؤسسات الرعاية الاجتماعية 28000 طفل، جرى تبنّي 10000 منهم. هذا ما يؤكد أن الأطفال المتبنّين لغير أهلهم ليسوا أيتاما، بل هم ضحايا عنف مؤسساتي وتمييز جندري ضد أمهات قاصرات، وجدن أنفسهن في حمل غير مرغوب به، فوقعن ضحية الاستغلال. صوت الأمهات المكتوم، كما تعتبره علوش، جاء على خلفية ما تعانيه الفتيات، إذ كان التجار يعاملنهن على أنهن يؤدين وظيفتهن في الحمل، مع اتهام بأنهن متخليات عن أطفالهن.
نذر قليل من كثير جاء في كتاب "طفلات عربيات في أتون الحروب والنزاعات" عما واجهته وتواجهه النساء من عنف واستغلال في الحروب، لا يتسع له مقال، ولعل ما ذُكر في بحث سعدى علوه يؤكد هذا الكثير، إذ لا يعرف أحد عدد "المراهقات أو النساء اللاتي لقين مصيرا قاتما وهن يهربن فرارا من الحرب وأهوالها، نحو بلاد تؤمّن لهن الحد الأدنى من حقوقهن، ومنها حقهن بالحياة"، فالجهر والكشف عن معاناة النساء هو "إسداء الدَين" لهن كما جاء في بحث آمال قرامي، التي تستمد من الفيلسوف الفرنسي بول ريكور قوله "إن فكرة الدَين لا تنفصل عن فكرة الميراث. إننا ندين لأولئك الذين سبقونا بقسم مما نحن عليه، وإن واجب الذاكرة لا يقتصر على الاحتفاظ بالأثر المادي الكتابي أو غير المكتوب للوقائع الغابرة، بل ينمي الشعور بأننا ملزمون نحو هؤلاء الآخرين الذين سنقول عنهم لاحقا أنهم لم يعودوا موجودين، ولكنهم سبق أن كانوا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
"ضفة ثالثة" – 24 تموز 2024