اخر الاخبار

شكّلت انتفاضة تشرين في العراق لحظةً مفصليةً وتحوليةً في تاريخ البلاد الحديث، اتسمت باحتجاجاتٍ جماهيريةٍ سعت إلى الإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية. قدْ نختلفُ مع بعضِنا في الرأي، أو في التوجهِ أو التصورات، وهذا شيء صحيحٌ وصحي، ولكن عندما تجدُ حالة ما، أو حدثا ما يمتلكُ القدرةِ بأن يكون جامعاً للجميع على اختلاف معتقداتهم، وتصوراتهمِ وتوجهاتهم، هنا ستكون تلك الحالة هي المُعبر الوحيد عن الإجابة على كل التساؤلات. وهذا ما تفرد به تشرين بانتفاضتهِ الجامعة. أتحدثُ هنا عن تجربتي الشخصية أبان الانتفاضة، وبالأدق عن شعوري وأنا أدخلُ تلك الساحة العجيبة (ساحة التحرير) وكأنني لمْ أشاهدها من قبل، أو أن أدلفَ فيها، أو حتى قد مررتُ بجانبها. ذلك الشعور الغريب الذي امتلكني وأنا أتجول بين الشباب المنسجم والمتجانس الذين تجمعهم رؤيا موحدة لوطنٍ في مخيلتهم، قبل أن تُسرقُ الأحلامَ منهم. كنتُ أسيرُ وكأنني أعرف الجميع صغاراً وكباراً شيوخاً وفتية نساءً ورجالاً، شعرتُ بذلك التجانس الذي لمْ أكن ألفهُ، أو أشعر بهِ في أي مكانٍ آخر طوالَ حياتي. نادتني سيدةٌ كبيرة في السن لتقدمَ لي طبقاً من الحساء (شورة العدس)، تناولتهُ وكأنما قد امتلكت أكبر وأغنى الموائد بما لذَ وطاب.  قد لا أكونُ مبالغاً حين انتابني الشعورُ بأنني أسيرُ وسط التاريخِ، والحاضرِ، والمستقبل حين تجتمعُ كل هذهِ الأزمنة في بوتقةٍ واحدة، وحين ينصهرُ الوجعُ مع الأمل، والخوفُ مع النشوة، والانصياع مع التمرد. كنتُ أسيرُ بين الجموع وأشعرُ بأنني عملاقٌ قد زادت من طولهِ نشوة الانتفاضة، وجمالُ التواجدِ، وحلاوة الأملْ، لمْ أكن أشعرُ حينها بأنني بهذا الطولُ المتوسط الذي وهبتني إياه الحياة، بل أحسستُ بأنني عملاقٌ يسيرُ في بهجةٍ وتحدٍ.  إن الاحتجاجات التي بدأت في أوائل تشرين الأول 2019، كانت تتجه وعلى نطاق واسع ضد فشل الحكومة، والبطالة، ونقص الخدمات العامة. لذا فقد شعر العديد من المواطنين بغربةٍ متزايدةٍ عن النخبة السياسية التي بدت منفصلةً عن نضالاتهم. قد جَمَعَتهمْ تلك الخيبات تحت مظلة تشرين، فانطلقت الاحتجاجات التي قادها في الغالب الشباب العراقيون الذين شكلوا نسبة كبيرة من السكان، وكذلك القوى اليسارية في البلاد، بدافع الرغبة في التغيير الفوري، مما يشير إلى تحول جيلي في المشهد السياسي. وبرزت شخصيات رئيسية خلال الانتفاضة، ترمز إلى الطبيعة الشعبية للحركة وإمكاناتها لإصلاح أوسع ولعب العديد من الشباب الناضج والواعي، والعديد من المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي دورًا فعالاً في تنظيم الاحتجاجات والتعبير عن مطالب الشعب. استخدم هؤلاء الأفراد منصات مختلفة لحشد الدعم، وتسليط الضوء على المظالم من خلال وسائل رقمية لاقت صدى لدى جمهور عالمي. وكان تركيز الحركة على الشباب ملحوظًا، حيث عكس خيبة أمل متزايدة في الهياكل السياسية القائمة وأملًا في عراق أكثر شمولاً وديمقراطية.

وقدْ اشتدّت الاحتجاجات طوال شهر تشرين وحتى الأشهر التالية، مما أدى إلى اشتباكات كبيرة بين المتظاهرين وقوات الأمن الى جانب رد الحكومة العنيف، بما في ذلك استخدام الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع، إلى سقوط العديد من الضحايا. حفّز ارتفاع عدد الشهداء بعد ان ازداد عدد المشاركين في التظاهرات، مما يُظهر مدى صمود المتظاهرين وعزيمتهم، حيث تُمثّل هذه الانتفاضة الحديثة تناقضًا صارخًا مع محاولات الإصلاح السابقة، إذ تُشير إلى نضج المجتمع المدني، والقوى اليسارية الفاعلة، والتي قادتْ إلى التزام أقوى بضمان حقوق الإنسان الأساسية. كما يُمكن تفسير انتفاضة تشرين من خلال زوايا مُختلفة. يرى البعض أنها مظهر من مظاهر الإحباط المُتجذّر تجاه النخبة السياسية، بينما يراها آخرون لحظة يقظة محورية للشباب العراقي. وقد أشار المُحللون إلى أن احتجاجات تشرين تعكس تغييرًا تدريجيًا في كيفية تفاعل المواطنين مع حكوماتهم، مُسلّطين الضوء على تحوّل نحو مواطنة أكثر نشاطًا وتشاركية. في المُقابل، يُمكن تحليل ردّ الحكومة على الاحتجاجات على أنه فشل في القيادة، حيث لجأ العديد من (القادة السياسيين) إلى الأساليب التقليدية المُستخدمة في الاضطرابات السابقة، بما في ذلك القمع ومحاولات استرضاء المُتظاهرين من خلال وعود الإصلاح. ومع ذلك، أثبتت هذه الإجراءات عدم فعاليتها إلى حد كبير. استمرت الأسباب الجذرية للاستياء، ولم يؤدِّ الفشل في معالجة الفساد المنهجي إلا إلى تأجيج الغضب الشعبي. دفعت خيبة الأمل العديد من المتظاهرين إلى تصور نظام سياسي جديد كليًا ليتمحور حول العدالة الاجتماعية والفرص الاقتصادية. ومع استمرار اتساع نطاق الانتفاضات، زاد الاهتمام الدولي والتغطية الإعلامية من معاناة الشعب العراقي. وبرزت حركات تضامن عالمية، مما أثار نقاشات حول حقوق الإنسان ومعايير الحكم. وأصبح دور الجهات الفاعلة والمنظمات الدولية حاسمًا، حيث أدلت دول مختلفة بدلوها في الشؤون الداخلية العراقية. وأعربت بعض الدول عن دعمها للمتظاهرين، بينما أدانت دول أخرى العنف ضد المتظاهرين. وقد أظهرت هذه الديناميكية الدولية الطبيعة المترابطة للسياسة العالمية، حيث ترددت أصداء الإجراءات المتخذة أو غير المتخذة في الخارج داخل العراق.

إن مظالم الماضي، إلى جانب التطلع إلى مستقبل مزدهر، تُمهّد الطريق للتطورات الجارية في المجتمع والسياسة العراقية. ولا يزال إرث انتفاضة تشرين يُلهم الخطاب السياسي الناشئ، حيث يُطالب النشطاء بالمساءلة والشفافية من قيادتهم.

ان انتفاضة تشرين في العراق شهادة على قوة العمل الجماعي والسعي إلى الكرامة في إطار سياسي مُحاصر. ولا تقتصر أهمية هذه الحركة على آثارها المباشرة فحسب، بل تمتد أيضًا إلى الآثار الدائمة التي تُحملها على مستقبل الحكم والعلاقات الاجتماعية في العراق.